استخدام الماء ، يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى .. وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطوار ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار ؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني ؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال.
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله ؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء (١).
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها. عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة ؛ وإزالة كل عائق يمنع منها .. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان .. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة ؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذ يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها ؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء .. لقاء العبد بربه .. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب .. إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء ..
* * *
ويعقب على أحكام الطهارة ، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان ، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة ، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام ـ كما تقدم ـ كما يذكرهم تقوى الله ، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور:
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ، وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ : سَمِعْنا وَأَطَعْنا ، وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ..
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون ـ كما قدمنا ـ قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين. إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم ، وفي حياتهم ، وفي مجتمعهم ، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم. ومن ثم كانت الإشارة ـ مجرد الإشارة ـ إلى هذه النعمة تكفي ، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة.
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة ، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها. كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله ، وهو أمر هائل جليل في حس المؤمن ، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها ..
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى. إلى إحساس القلب بالله ، ومراقبته في خطراته الخافية :
(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ..
والتعبير «بذات الصدور» تعبير مصور معبر موح ، نمر به كثيرا في القرآن الكريم. فيحسن أن ننبه إلى ما فيه من دقة وجمال وإيحاء. وذات الصدور : أي صاحبة الصدور ، الملازمة لها ، اللاصقة بها. وهي كناية
__________________
(١) كذلك الحال في الزكاة والضرائب المالية. فهذه غير تلك ، ولا تغني غناءها .. وسيجيء شيء عن هذا في هذا الجزء.