فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا لهم القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك» (١)
فالنوعان الثالث والرابع هما السفاح الذي ينص على نفيه ـ سواء منه المخادنة والبغاء ـ والأول هو الإحصان الذي ينص على طلبه .. أما الثاني فما ندري كيف نسميه!!!
والقرآن يصور طبيعة النوع الذي يريده الله .. فهو إحصان .. هو حفظ وصيانة .. هو حماية ووقاية .. هو إحصان للرجل وإحصان للمرأة. ففي هذه القراءة «محصنين» بصيغة اسم الفاعل ، وفي قراءة أخرى : «محصنين» بصيغة اسم المفعول. وكلا المعنيين يتحقق في هذه الصورة النظيفة القويمة العفيفة. وهو إحصان للبيت والأسرة والأطفال. إحصان لهذه المؤسسة التي تقوم على هذا الأساس ثابتة راسخة وطيدة.
والآخر : سفاح .. مفاعلة من السفح ، وهو إراقة الماء في المنحدر الواطئ! مسافحة يشترك فيها الرجل والمرأة ، فيريقان ماء الحياة ، الذي جعله الله لامتداد النوع ، ورقيه ، عن طريق اشتراك الرجل والمرأة في إنجاب الذرية وتربيتها وحضانتها وصيانتها. فإذا هما يريقانه للذة العابرة ، والنزوة العارضة. يريقانه في السفح الواطئ! فلا يحصنهما من الدنس ، ولا يحصن الذرية من التلف ، ولا يحصن البيت من البوار! وهكذا يرسم التعبير القرآني صورتين كاملتين لنوعين من الحياة ؛ في كلمتين اثنتين. ويبلغ غايته من تحسين الصورة التي يرتضيها ، وتبشيع الصورة التي لا يرتضيها ، بينما هو يقرر حقيقة كل من الصورتين في واقع الحياة. وذلك من بدائع التعبير في القرآن (٢).
فإذا انتهى من هذا القيد للابتغاء بالأموال. عاد ليقرر كيف يبتغى بالأموال :
(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً).
فهو يجعل صداق المرأة فريضة لها مقابل الاستمتاع بها. فمن أراد أن يستمتع بامرأة من الحلائل ـ وهن ما وراء ذلكم من المحرمات ـ فالطريق هو ابتغاؤها للإحصان ـ أي عن طريق النكاح (الزواج) لا عن أي طريق آخر ـ وعليه أن يؤدي لها صداقها حتما مفروضا ، لا نافلة ، ولا تطوعا منه ، ولا إحسانا ، فهو حق لها عليه مفروض. وليس له أن يرثها وراثة بلا مقابل ـ كما كان يقع في بعض الأحوال في الجاهلية ـ وليس له أن يقايض عليها مقايضة كما كان يقع في زواج الشغار في الجاهلية. وهو أن يتزوج الرجل امرأة في مقابل أن يدفع لوليها امرأة من عنده! كأنهما بهيمتان! أو شيئان!
وبعد تقرير هذا الحق للمرأة وفرضيته ، يدع الباب مفتوحا لما يتراضى عليه الزوجان بينهما وفق مقتضيات حياتهما المشتركة ، ووفق مشاعر هما وعواطفهما أحدهما تجاه الآخر :
(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ).
فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها ـ كله أو بعضه ـ بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية ـ ولا جناح عليهما في أن يزيدها الزوج على المهر ، أو يزيدها فيه. فهذا شأنه الخاص. وهذا شأنهما معا يتراضيان عليه في حرية وسماحة.
__________________
(١) أخرجه البخاري في كتاب النكاح.
(٢) يراجع كتاب : «التصوير الفني في القرآن» فصل : «التناسق» وفصل «طريقة القرآن» .. «دار الشروق».