ثم يجيء التعقيب. يربط هذه الأحكام بمصدرها ؛ ويكشف عما وراءها من العلم الكاشف ، والحكمة البصيرة : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ..
فهو الذي شرع هذه الأحكام. وهو الذي شرعها عن علم وعن حكمة .. فيعرف ضمير المسلم من أين يتلقى الأحكام في كل شأن من شئون حياته ـ وأخصها هذا الذي بينه وبين زوجه ـ ويطمئن إلى ما يتلقاه من هذه الأحكام ، الصادرة عن العلم وعن الحكمة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ...
* * *
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة ؛ أو خشي الفتنة : «ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ـ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ـ فانكحوهن بإذن أهلهن ؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف ـ محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان ـ فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم».
إن هذا الدين يتعامل مع «الإنسان» في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته. وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية .. وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد .. إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه. فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع! إنما هو يعتبر واقع «الإنسان» في فطرته وحقيقته .. واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع .. فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية .. أية جاهلية .. فمن الواقع كذلك مقدرته ـ بما ركب في فطرته ـ على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا! والله ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم «واقع الإنسان» كله ، لأنه يعلم «حقيقة الإنسان» كلها. هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه .. (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ؛ ريثما يتم تدبير أمره .. إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل. وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال ـ حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين ـ وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين ـ كما جاء في الآية السابقة ـ لمن هن ملك يمينه. لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا. مباشرتهن إما بزواج منهن ـ إن كن مؤمنات ـ أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة .. ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج. لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك! وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :
(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ، فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ..)
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول ـ أي القدرة على نكاح الحرة ـ ذلك أن الحرة تحصنها الحرية ؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها. فهن «محصنات» هنا ـ لا بمعنى