ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة ولبسهم الغرور ، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له ، فأسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر ، وانحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم.
فمن جملة مطالبهم العجيبة من الله ، (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا). أي طلبوا أن يجعل الله المسافات بين قراهم طويلة ، كي لا يستطيع الفقراء السفر جنباً إلى جنب مع الأغنياء ، ومقصودهم هو أن تكون بين القرى ـ كما أسلفنا ـ فواصل صحراوية شاسعة ، حتى لا يستطيع الفقراء ومتوسّطو الحال الإقدام على السفر بلا زاد أو ماء أو مركب ، وبذا يكون السفر أحد مفاخر الأغنياء وعلامة على القدرة والثروة.
فإنّهم بهذا العمل أوقعوا الظلم على أنفسهم (وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ).
فإن كانوا يظنّون أنّهم إنّما يظلمون غيرهم فقد اشتبهوا ، إذ أنّهم قد استلّوا خنجراً ومزّقوا به صدورهم.
ويا له من تعبير رائع ، ذلك الذي أوضح به القرآن الكريم مصيرهم المؤلم ، حيث يقول : إنّنا جازيناهم ودمّرنا بلادهم ومعيشتهم بحيث : (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ).
فلم يبق من تلك الحياة المرفّهة ، والتمدّن العريض المشرق ، إلّاأخبار على الألسن ، وذكريات في الخواطر ، وكلمات على صفحات التاريخ (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
كيف دمّرنا أرضهم بحيث سلبت منهم معها قدرة البقاء فيها ، وبذا أصبحوا مجبرين على أن يتفرّقوا كل مجموعة إلى جهة لإدامة حياتهم ، حتى أضحى تفرّقهم مثلاً يضرب فقيل : «تفرّقوا» أيادي سبأ.
وفي ختام الآية يقول تعالى : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَاتٍ لِّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
ذلك لكونهم بصبرهم واستقامتهم يتمكّنون من الإمساك بزمام مركب الهوى والهوس الجموح ، ويقفون بوجه المعاصي ، وبشكرهم لله تعالى في طريق طاعته فإنّهم مرتبطون به ويقظون ، وعليه فإنّهم يأخذون العبرة بشكل جيّد.
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١)