لا أحد مجبر على اتّباع الشيطان : هذه الآيات في الحقيقة تمثّل نوعاً من الإستنتاج العام من قصة «قوم سبأ» التي مرّت في الآيات السابقة. يقول تعالى في الآية الاولى من هذه الآيات : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).
بتعبير آخر : فإنّ إبليس بعد امتناعه من السجود لآدم وطرده من محضر الكبرياء الإلهي ، توقّع وقال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١).
وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية ، والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته ، والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان ، فتقول الآية المباركة : (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ).
وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه : (وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى) (٢). ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان ، وعبيد الهوى ، لا يهدأ له بال ، بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم.
لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته ، إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شك : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْأَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ).
والمقصود من الجملة أعلاه هو التحقق العيني لعلم الله ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن ، والأعمال المستقبلية لذلك الشخص ، بل يجب توفّر ميدان للإمتحان ، ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخله ـ بكامل الإرادة والإختيار ـ إلى الواقع الفعلي ، ويتحقق علم الله سبحانه وتعالى عيناً.
ثم تختتم الآية بتنبيه للعباد : (وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ حَفِيظٌ). حتى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا ، أو أنّ الله ينسى.
* * *
__________________
(١) سورة الحجر / ٣٩ و ٤٠.
(٢) سورة إبراهيم / ٢٢.