المدينة الراقية التي أضاعها الكفران : بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها الله داود وسليمان عليهماالسلام ، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر ، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق .. قوم شملهم الله بأنواع النعم ، ولكنهم سلكوا طريق الكفران. يقول تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْءَايَةٌ).
والمشهور أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن.
ومن الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداءً ، ثم بعدئذ سمّي كل أولاده وقومه من بعده باسمه ، ثم انتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.
تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى : (جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ).
ما حصل هو أنّ قوم سبأ استطاعوا ـ ببناء سدّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم ـ حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل ، والإفادة منها ... وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل ، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.
ثم يضيف القرآن : (كُلُوا مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).
فبلحاظ النعم المادية هواء نقي ، ونسيم يبعث على السرور ، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر ، وبلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم ، والتغاضي عن تقصيرهم ، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.
ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين ، لم يخرجوا من بوتقة الامتحان بسلام.
قال تعالى : (فَأَعْرَضُوا) استهانوا بنعمة الله ، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية ، نسوا الله ، وأسكرتهم النعمة.
وهنا مسّهم سوط الجزاء ، يقول تعالى : (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ). فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب ..
«العرم» : من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل ، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير.
بعدئذٍ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي : (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ