استعرضت أوضاعهم فيما قبل ، وذلك كي تجعل الحقيقة أكثر وضوحاً في هذه المقارنة ، إذ تقول : (أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيمَةِ).
إنّ أوضاع الظالمين في جهنم في ذلك اليوم تجبرهم على استخدام وجوههم كوسيلة دفاعية ، لأنّ أيديهم وأرجلهم مقيدة بالسلاسل.
ثم تضيف نهاية الآية : (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ).
نعم ، إنّ ملائكة العذاب هي التي توضّح لهم هذه الحقيقة المرّة والمؤلمة ، إذ يقولون لهم : إنّ أعمالكم ستبقى معكم وستعذبكم ، وهذا التوضيح هو تعذيب روحي آخر لهؤلاء.
إنّ ما قيل لحدّ الآن هو إشارة بسيطة لعذابهم الأليم في يوم القيامة ، والآية التالية تتحدث عن العذاب الدنيوي لهؤلاء ، كي لا يتصور أحد أنّه يعيش في أمان بهذه الدنيا ، قال تعالى : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَايَشْعُرُونَ).
الآية الأخيرة في بحثنا هذا تبيّن أنّ عذاب هؤلاء الدنيوي لا يقتصر على العذاب الجسدي ، وإنّما يشتمل أيضاً على عقوبات نفسية : (فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا) (١).
ولكن العار والخزي للإنسان أن يخرج من هذه الدنيا حقيراً وذليلاً ، قد ابتلي بعذاب فاضح يريق ماء وجهه ، (وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
كلمة (أكبر) كناية عن شدّة العذاب وقسوته.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١)
قرآن لا عوج فيه : الآيات ـ هنا ـ تبحث خصائص القرآن المجيد أيضاً ، وتكمل البحوث السابقة في هذا المجال. ففي البداية تتحدث عن مسألة شمولية القرآن ، إذ تقول الآية الكريمة : (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلّ مَثَلٍ).
__________________
(١) «خزي» : تعني الذلّ والهوان كما تعني الفضيحة (يراجع لسان العرب).