يقول تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ) (١). أي : أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله ، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.
نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوماً ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه : «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم ، وجامعة للإستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم ، تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي عليهالسلام في نهج البلاغة في كلماته العميقة المعنى : «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء الله ، ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله».
خلاصة القول ، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الإعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ) (٢).
ب) برهان العدالة : التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق ، يستنتج منه أنّ كل شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري ، يحكم نظام عادل دقيق ، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتى الموت ، حركات القلب ، دوران الدم ، أجفان العين ، وكل جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق ، الذي يحكم العالم بأسره و «بالعدل قامت السماوات والأرض». فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!
صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والاختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظل تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه ، ولكن إذا أساء الإنسان الاستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أنّ الظالمين الضالين المضلين بسوء استفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطىء فماذا يقتضي العدل الإلهي؟!
وصحيح أنّ بعضاً من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحق ، كما أنّ جميع المحسنين
__________________
(١) سورة المؤمنون / ١١٥.
(٢) سورة الواقعة / ٦٢.