وبتعبير آخر : فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشاً ، فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجوداً في العالم الخارجي ، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي ، وإلّا فإنّ الإنجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتفق مع حكمة الخلق.
ومن جهة اخرى فعندما نبحث في التاريخ البشري منذ أيام نشأة ذلك التاريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت ، فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين ـ وحتى إنسان ما قبل التاريخ ـ وبالأخص طريقة دفن الموتى ، وكيفية بناء القبور ، وحتى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى ، كلها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.
«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول : «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاولى على سطح الأرض ، كانت لهم إعتقادات معينة ، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معينة في الأرض ، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم ، وبهذه الطريقة فإنّهم يثبتون إعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت» (١).
فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت ، وإن كانوا قد سلكوا طريقاً خاطئاً في إعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماماً.
على كل حال ، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.
ومن جهة ثالثة ، فإنّ وجود محكمة «الوجدان» ، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عندما ينجز عملاً حسناً فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحياناً وصفها بأي بيان أو كلام.
وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصاً الجنايات الكبرى ، فإنّه يستشعر عدم الراحة ، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الإنتحار ، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلق على أعواد المشانق.
__________________
(١) علم الإجتماع ، ساموئيل كنيك / ١٩٢.