يذهل الإنسان ويصرفه عن سواه ، سواء كان مما يبعث على المسرّة أو الحزن ، ولكن لإلحاقه كلمة «فاكهون» التي هي جمع «فاكه» وهو المسرور الفرح الضاحك ، يمكن إستنتاج أنّ المعنى إشارة إلى الإنسان المشغول بنفسه والمنصرف تماماً عن التفكير في أي قلق أو ترقّب ، والغارق في السرور والسعادة والنشاط بشكل لا يترك أي مجال للغمّ والحسرة أن تعكّر عليه صفوه ، وحتى أنّه ينسى تماماً هول قيام القيامة والحضور في محكمة العدل الإلهية ، تلك المواقف التي لولا نسيانها فإنّها حتماً ستلقي بظلالها الثقيلة من الغمّ والقلق على القلب ، وبناءً على ذلك فإنّ أحد الآثار المترتبة على إنشغال الذهن بالنعمة هو نسيان أهوال المحشر.
وبعد التعرض إلى نعمة الطمأنينة وراحة البال التي هي أساس جميع النعم الاخرى وشرط الاستفادة من جميع المواهب والنعم الإلهية الاخرى ، ينتقل إلى ذكر بقية النعم ، فيقول تعالى : (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِللٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكُونَ).
«أزواج» تشير إلى الزوجة التي يعطيها الله في الجنة ، أو الزوجة المؤمنة التي كانت معه في الدنيا.
التعبير ب «ظلال» يدلّل على وجود الشمس هناك ، ولكنّها ليست شمساً مؤذية.
إضافةً إلى ذلك فإنّ : (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ).
«يدعون» : أي يطلبون ، والمعنى أنّ كل ما يطلبونه ويتمنّونه يحصلون عليه.
وعليه فإنّ كل ما يخطر على بال الإنسان وما لا يخطر من المواهب والنعم الإلهية موجود هناك معدّ ومهيّأ ، والله عنده حسن الثواب.
وأهمّ من كل ذلك ، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها : (سَلمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ).
هذا النداء الذي تخفّ له الروح ، فيملؤها بالنشاط ، هذا النداء المملوء بمحبة الله ، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اخرى. نعم فسماع نداء المحبوب ، النداء الندي بالمحبّة ، المعطّر باللطف ، يغمر سكّان الجنة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا ، بل ويفيض عليه.
ففي الدرّ المنثور قال النبي صلىاللهعليهوآله : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، وذلك قول الله تعالى : (سَلَامٌ قَوْلاً مّن رَبّ رَّحِيمٍ) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتوا إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم».