الآية التالية تتناول وصفاً آخر لحالة تلك المجموعة ، وتمثيلاً ناطقاً عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول : (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا). وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقاً لا إلى الأمام ولا إلى الوراء ، آنئذ : (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ).
فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق.
لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة : (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). فمهما كان حديثك نافذاً في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي ، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة.
(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (١٢)
من هم الذين يتقبّلون إنذارك : كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي إستعداد لتقبّل الإنذارات الإلهية ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه ، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة ، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو اسلوب القرآن. تقول الآية الاولى من هذه المجموعة : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذّكْرَ وَخَشِىَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ).
التعبير ب «الغيب» هنا إشارة إلى معرفة الله عن طريق الاستدلال والبرهان.
جملة «فبشّره» تكميل للإنذار ، إذ إنّ الرسول صلىاللهعليهوآله في البدء ينذر ، وحين يتحقق للإنسان اتّباع الذكر والخشية وتظهر آثارها على قوله وفعله ، هنا يبشّره الباريء عزوجل.
يبشّره بأنّ الله العظيم سيغفر له تلك الزلّات جميعها ، ويبشّره بعدئذ بأجر كريم وثواب جزيل لا يعلم مقداره ونوعه إلّاالله سبحانه.
بعد ذلك وبما يتناسب مع البحث الذي كان في الآية السابقة حول الأجر والثواب العظيم للمؤمنين ، تنتقل الآية التالية إلى الإشارة إلى مسألة المعاد والبعث والكتاب والحساب والمجازاة ، تقول الآية الكريمة : (إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوتَى).