واستناداً إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر ، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة ، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر ، تقول الآية الكريمة : (وَاللهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذلِكَ النُّشُورُ).
نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح ، ثم في حركة السحاب ، ثم في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة ، ثم في حياة الأرض الميتة ، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير اموره.
الآن ، وبعد هذا المبحث التوحيدي ، تشير الآية إلى الإشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لإعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم ، فتقول الآية : (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا).
«العزّة» : حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب ... من قولهم : أرض عزاز ، أي صُلبة.
ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب ، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب ، وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله ، وكل من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي.
في كتاب كفاية الأثر عن جنادة بن أبي اميّة قال : دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب عليهماالسلام في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طشت يقذف فيه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة ، من السم الذي أسقاه معاوية (لعنه الله) ، فقلت : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟
فقال : «يا عبد الله» ، بماذا اعالج الموت؟
قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ثم التفت إليّ فقال : «لقد عهد إلينا رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة ، ما منّا إلّامسموم أو مقتول». ثم رفعت الطشت وبكى صلوات الله عليه وآله قال : فقلت له : عظني يابن رسول الله قال : «نعم ... وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزوجل ...» الحديث.
ثم توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزة) ، فيقول تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).
فقد فسّر «الكلم الطيب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة.