ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصة ، وتبدأ بهذه الجملة : (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَّجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا).
أمّا زكريا الذي كان يرى أنّ الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إلى مثل هذه الأمنية ، فإنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من الله سبحانه : (قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا).
«عاقر» : في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية ، أو بمعنى الحبس ، وإنّما يقال للمرأة ، عاقر ؛ لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت ، أو لأنّ إنجاب الأولاد محبوس عنها.
«العتيّ» : تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله ، وهي الحالة التي تظهر على الإنسان عند شيخوخته.
إلّا أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه : (قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ). إنّ هذه ليست بالمسألة العجيبة ، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن مثلك ، وامرأة عقيم ظاهراً (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيًا) ، فإنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم ، فلا عجب أن يتلطّف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.
وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة ، وغمر نور الأمل نفسه ، لكن لمّا كان هذا النداء بالنسبة إليه مصيرياً ومهماً جدّاً ، فإنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل : (قَالَ رَبّ اجْعَل لِّىءَايَةً).
لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد الله ، وكان مطمئناً لذلك ، إلّاأنّه لزيادة الإطمئنان ـ كما أنّ إبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية ، فخاطبه الله : (قَالَءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلثَ لَيَالٍ سَوِيًّا) ، واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.
وهذه واقعاً معجزة بيّنة حيث إنّ إنساناً يمتلك لساناً سليماً ، وقدرة على كل نحو من المناجاة مع الله ، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدّث أمام الناس.
بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس ، فكلّمهم بالإشارة : (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ، لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم ، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء.