بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه ، قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا). هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيّداً بإمكاناته.
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (٩٨)
كيف تمّ بناء سدّ ذي القرنين : الآيات أعلاه تشير إلى سفرة اخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا). أي : بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).
والآية تشير إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناساً كانوا على مستوى دانٍ من المدنية ، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر.
في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين ، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج ، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين : (قَالُوا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات ، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين.
أمّا ذو القرنين فقد أجابهم : (قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ) ، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما : (فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).
«ردم» : على وزن «طرد» في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار ، إلّاأنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شمل كل سدّ ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.