يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة.
بعد هذا الكلام والعهد الجديد : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيّفُوهُمَا). والمقصود من كلمة قرية هو مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة).
المهم في الأمر ، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسى عليهالسلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة. في مجمع البيان عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «كانوا أهل قرية لئام».
ثم يضيف القرآن : (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ). وقد كان موسى عليهالسلام شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما ، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيّئة ؛ وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا لأنفسهما طعاماً.
لذا فقد نسي موسى عليهالسلام عهده مرّة اخرى وبدأ بالإعتراض ، إلّاأنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفاً ف (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة.
وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى ، بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة ، لا تستطيع معي صبراً ، لذلك قرّر العالم قراره الأخير : (قَالَ هذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا). «تأويل» : من «أول» على وزن «قول» وتعني الإرجاع ، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع من التأويل.
إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية ، لكن على موسى عليهالسلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.
المفسر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول : ورد في الخبر ، أنّ موسى عليهالسلام عندما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته ، أجاب قائلاً : لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه عليهالسلام من فرعون ، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً منها أصعب وأكثر ألماً على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.