فتقول : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنبٍ وَحَفَفْنهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا).
البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مّنْهُ شَيًا).
والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سرّ الحياة ، وأمراً مهماً لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف : (وَفَجَّرْنَا خِللَهُمَا نَهَرًا).
على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار : (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ).
ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته وشعر بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث إلتفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه : (فَقَالَ لِصحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا).
لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجياً ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي امور أبدية ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا).
بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً). وهذا كلام يعكس وهم قائله وتمنّياته.
ثم أضاف : حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل ، لقد كان غارقاً في أوهامه : (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا).
لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صوّرها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفاً ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.