عن مخالفته ، لتشملكم رحمة الله ولطفه (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التملّص والفرار في وجه المشركين ، فقال لهم أوّلاً : لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا : لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين ، وليس تمرّدنا على أوامر الله إلّالكونها موجودة عند غيرنا من الامم ، ولم يبلغنا منها شيء : (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ).
ثم إنّه سبحانه ينقل عنهم ـ في الآية اللاحقة ـ نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع ، ومقروناً هذه المرّة بنوع أشد من الغرور والصّلف وهو : أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر استعداداً من أيّة امة اخرى لقبول الأمر الإلهي : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ).
والآية المتقدّمة كانت تعكس هذا التحجج وهو : أنّ عدم اهتدائنا إنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية ، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشىء عن أنّ هذه الكتب نزلت على الآخرين ، ولم تنزل علينا. أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوّق والإدعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربي على غيرهم.
فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الإدعاءات أنّ الله سبحانه سدّ عليكم كل سُبل التملّص والفرار ، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير ، لأنّ الله آتاكم كل الآيات ، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة الربانية لكم : (فَقَدْ جَاءَكُم بَيّنَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ). ومع ذلك (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَايَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا).
«صدف» : من «الصَدْف» ويعني الإعراض الشديد ـ من دون تفكير ـ عن شيء ، وهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب ، بل كانوا يبتعدون عنها.
وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي اعدّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكّروا فيها ويدرسوها ولو قليلاً ، بل ولا يكتفون برفضها إنّما يعمدون إلى صدّ الآخرين عنها ، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها ، بيّن كل ذلك في قوله الموجز والبليغ : (سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ).