وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى فئتين عظيمتين من المشركين ، فتقول : إنّ هؤلاء لايبقون جميعاً على هذا الحال ، بل إنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة الاخرى ستبقى في عنادها وإصرارها وجهلها ، وسوف لا تؤمن أبداً : (وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّايُؤْمِنُ بِهِ).
ومن الواضح أنّ أفراد الفئة الثّانية فاسدون ومفسدون ، ولذلك قالت الآية في النهاية : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ). وهي إشارة إلى أنّ الذين لا يذعنون للحق ، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع ، ولهم دور مهم في إفساده.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)
تتابع هذه الآيات البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول إنكار وتكذيب المشركين ، وإصرارهم على ذلك ، فقد علّمت الآية الاولى النبي صلىاللهعليهوآله طريقة جديدة في المواجهة ، فقالت : (وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ).
إنّ لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا ، والمقترن بالاعتماد والإيمان القاطع بالمذهب ، أثراً نفسياً خاصاً ، وبالذات على المنكرين المعاندين ، فهو يفهمهم بعدم وجود أي إجبار وإصرار على قبولهم الدعوة الإسلامية ، بل إنّهم بعدم تسليمهم أمام الحق سيحرمون أنفسهم ، ولا يضرون إلّاأنفسهم.
وتشير الآيتان التاليتان إلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إذعانهم للحق ، وتبيّن أنّ التعليمات الصحيحة ، والآيات المعجزة التي تهزّ الوجدان والدلالات الاخرى الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الإنسان ، بل إنّ إستعداد التقبل ولياقة قبول الحق لازمة أيضاً ، كما أنّ البذر لوحده ليس كافياً لإنبات النبات والأوراد ، بل إنّ الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية : (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ).