التوحيد بعثنا عليكم عبادا من الأنوار القدسية والتجليات الجلالية والسبحات القهرية من الصفات الإلهية وجنود سلطان العظمة والكبرياء (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) أي : وجوداتكم بالفناء في التوحيد ، فيغلب عليكم كآبة فقدان الكمالات بقهرها وسلبها (وَلِيَدْخُلُوا) مسجد القلب (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ووصل أثرها عليكم من العلوم والفضائل (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) بالظهور بكماله وفضيلته والإعجاب برؤية زينته وبهجته (تَتْبِيراً) بالإفناء بصفات الله.
[٨] (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))
(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد القهر بالفناء والمحو بتجليات الصفات بالإحياء ويبعثكم بالبقاء بعد الفناء ، ويثيبكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(وَإِنْ عُدْتُمْ) بالتلوين في مقام الفناء بالظهور بأنانيتكم (عُدْنا) بالقهر والإفناء كما قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)) (١) (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ) الطبيعة (لِلْكافِرِينَ) المحجوبين عن الأنوار ، الذين بقوا على فساد المرة الأولى (حَصِيراً) محبسا وسجنا يحصرهم في عذاب الاحتجاب والحرمان عن الثواب.
[٩] (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩))
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أي : يبين أحوال الفرق الثلاث من السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال يهدي إلى طريقة التوحيد التي هي أقوم الطرق للسابقين (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) من أصحاب اليمين الذين آمنوا تقليدا جازما أو تحقيقا علميا وداوموا على أعمال التزكية والتحلية الصالحة لأن يتوصل بها إلى الكمال (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) من نعيم جنات الأفعال والصفات في عوالم الملك والملكوت والجبروت.
[١٠ ، ١١] (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))
(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من أصحاب الشمال (بِالْآخِرَةِ) لكونهم بدنيين محجوبين عن عالم النور ، محبوسين في ظلمات الطبيعة (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) في قعر سجين الطبيعة ، مقيدين بسلاسل محبة السفليات وأغلال التعلقات ونيران الحرمان عن اللذات والشهوات ، والتعذب بالعقارب والحيّات من غواسق الهيئات.
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٤ ، ٧٥.