حجر الدماغ الذي هو منشأ العقل (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) من مياه العلوم على عدد المشاعر الإنسانية التي هي الحواس الخمس الظاهرة ، والخمس الباطنة ، والعاقلة النظرية والعملية. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «من فقد حسّا فقد فقد علما». (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) أي : أهل كل علم مشربهم من ذلك العلم ، كأهل الصناعات ، والعلماء العاملين من مشرب العقل العمليّ ، والحكماء والعارفين من النظريّ والصباغين من علم الألوان المبصرة ، وأهل صناعة الموسيقى من علم الأصوات وغير ذلك. وعلى التأويل الثاني : أمرنا موسى القلب ، بضرب عصا النفس على حجر الدماغ ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا هي المشاعر المذكورة التي تختص كلّ واحدة منها بقوّة من القوى الاثنتي عشرة المذكورة التي هي أسباط يعقوب الروح ، قد علم كل منها مشربه (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) أي : انتفعوا بما رزقكم الله من العلم والعمل والأحوال والمقامات. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولا تبالغوا في الفساد بالجهل.
(لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي : الغذاء الروحاني من العلم والمعرفة والحكمة (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي : اسأل لنا ربّك يوسع علينا ، ويرخص لنا فيما تنبته أرض نفوسنا من الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة وكل ما فيه حظ النفس وعذابها. (اهْبِطُوا مِصْراً) أي : مدينة البدن (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) اللازمة لاتباع الشهوات والحرص في المقتنيات (وَالْمَسْكَنَةُ) أي : دوام الاحتياج ودوام سكنى الجهة السفلية (وَباؤُ) واستحقوا (بِغَضَبٍ) البعد والطرد (مِنَ اللهِ ذلِكَ) باحتجابهم عن آيات الله وتجلياته ، والباقي ظاهر. وعلى الوجه الثاني : وبقتلهم أنبياء القلوب بغير أمر ثابت لهم عليهم يتوجه به ذلك بل بصرف باطلهم ذلك بعصيانهم أوامر القلوب والعقول واعتدائهم عن ظهورهم.
[٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان التقليديّ ، والظاهريين والباطنيين والذين تعبدوا ملائكة العقول ، لاحتجابهم بالمعقولات وكواكب القوى النفسانية لاحتجابهم بالوهميات والخياليات (مَنْ آمَنَ) منهم الإيمان الحقيقي (بِاللهِ) والمعاد وأيقنوا علم التوحيد والقيامة ، وعملوا ما يصلحهم للقاء الله ونيل السعادة في المعاد ، فلهم الثواب الباقي الروحانيّ عند ربهم من جنّات الأفعال والصفات (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عقوبة أفعالهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات تجلّيات الصفات. والجملة اعتراض بين خطاب بني إسرائيل.