عدوكم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي : قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى فينزل عليكم النصر من عند الله كما قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
[١٢٦ ـ ١٢٧] (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧))
(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) الآية ، البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه. وقدورد في الحديث : «البلاء سوط من سياط الله تعالى ، يسوق به عباده إليه». فإن كل مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد يكسر ثورة نفسه وقواها ويقمع صفاتها وهواها ، فيلين القلب ويبرز من حجابها وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها وينقبض منها ويشمئز ، فيتوجه إلى الله تعالى. وأقلّ درجاته أنه إذا اطلع على أن لا مفرّ منه إلا إليه ، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه ، تضرّع إليه وتذلّل بين يديه ، كما قال تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ، (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) (٢) ، وبالجملة يوجب رقة الحجاب أو ارتفاعه فليغتنم وقته وليتعوذ وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقرّ التيقظ والتذكر وتتسهل التوبة والحضور فلا يتعود الغفلة عند الخلاص وتتقوى النفس عند الأمان فتغلب وينسبل الحجاب أغلظ مما كان كما قال : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٣) ، (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) (٤).
[١٢٨] (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨))
(رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ليكون بينكم وبينه جنسية نفسانية بها تقع الألفة بينكم وبينه فتخالطونه بتلك الجنسية وتختلطون به فتتأثر من نورانيتها المستفادة من نور قلبه أنفسكم فتتنوّر بها وتنسلخ عنها ظلمة الجبلة والعادة (عَزِيزٌ عَلَيْهِ) شديد شاق عليه ، عنتكم مشقتكم ولقاؤكم المكروه لرأفته اللازمة للمحبة الإلهية التي له لعباده ورؤيته إياهم بمثابة أعضائه وجوارحه لكونه ناظرا بنظر الوحدة. فكما يشق على أحدنا تألم بعض أعضائه ، يشق عليه تعذيب بعض أمته (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) لشدة اهتمامه بحفظكم كما يشتدّ اهتمام أحدنا بكل واحد من أجزاء جسده
__________________
(١) سورة لقمان ، الآية : ٣٢.
(٢) سورة يونس ، الآية : ١٢.
(٣) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٥.
(٤) سورة يونس ، الآية : ١٢.