بسبب كونهم أهل الصف الأول ، عرفاء بالله ، وكل عارف يعرف مقام سائر العرفاء ومتعهدهم من الله بعهد التوحيد عامّ لبني آدم ، كما ذكر ، وعهد النبيين خاص بهم وبمن يعرفهم بحق المتابعة ، فقد أخذ الله من النبيين عهدين أحدهما ما ذكر في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (١) إلى آخره. وثانيهما ما ذكر في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)) (٢) وهو عهد التعارف بينهم ، وإقامة الدين ، وعدم التفرّق به بتصديق بعضهم بعضا ودعوة الحق إلى التوحيد ، وتخصيص العبادة بالله تعالى ، وطاعة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتعريف بعضهم بعضا إلى أممهم وخصوصة بسبب أن معرفة الله تعالى في صورة التفاصيل ، وحجب الصفات ، وتكثر المظاهر أدق وأخفى من معرفته في عين الجمع وهم من رزق حق المتابعة عارفون بذلك وبأحكام تجلّيات الصفات التي هي الشرائع خاصة دون من عداهم.
[٨٢ ـ ٨٤] (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما علم عهد الله مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد الله إليهم (فَأُولئِكَ هُمُ) الخارجون عن دين الله ولا دين غيره معتد به في الحقيقة إلا توهما (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) وكلّ من في السموات والأرض يدين بدينه (طَوْعاً) كما عدا الإنسان والشيطان (وَكَرْهاً) كالإنسان والشيطان إذ الكفر لا يسع موجودا سواهما ، فكلهم ممتثلون لما أمرهم الله ، طائعون. والإنسان لاحتجابه بإرادته ونسيانه عهد الله وقبوله لدعوة الشيطان لمناسبته إياه بالظلمة النفسانية لا يؤمن ولا ينقاد إلا كرها ، اللهمّ إلا من عصمه الله واجتباه ، والشيطان لاحتجابه بعجبه وأنيته في قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (٣) وإبائه ، واستكباره كفر ، وهو مع ذلك يعلم عصيانه ويؤمن كرها ، ويتحقق أن كفره بإرادته تعالى وذلك عين الإيمان ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)) (٤) ، وقال تعالى :
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.
(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٧.
(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٢.
(٤) سورة الحشر ، الآية : ١٦.