مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول لذّاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام ، كلّ يوم عقد تامّ من أطوار عمره عشر سنين ، إلا أن يرمز إليهم بإشارة خفيّة ، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن يدنو منهم في مقاصدهم ، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من ابتداء سنّ التمييز ، الذي هو العشر الأول ، بذكر ربّه في محراب الدماغ والتسبيح المخصوص به دائما. وكذا قالت ملائكة القوى الروحانية لمريم لنفس الزكية الطاهرة.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لتنزّهك عن الشهوات (وَطَهَّرَكِ) عن رذائل الأخلاق والصفات المذمومة (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ) نفوس الشهوانية الملونة بالأفعال الذميمة والملكات الرديئة (يا مَرْيَمُ) أطيعي لربك بوظائف الطاعات والعبادات (وَاسْجُدِي) في مقام الانكسار والذلّ والافتقار والعجز والاستغفار (وَارْكَعِي) في مقام الخضوع والخشوع مع الخاضعين.
[٤٤ ـ ٤٦] (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : أحوال غيب وجودك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا نبيّ الروح (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى القوى الروحانية والنفسانية ، أي : في رتبتهم ومقامهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يتسابقون في سهامهم ويتبادرون في حظوظهم أيهم يدبر مريم النفس ويكفلها بحسب رأيه ومقتضى طبعه يترأس عليها ويأمرها بما يراه من مصلحة أمره (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) في مقام الصدور الذي هو محل نزاع القوى الروحانية والنفسانية ومحل نزاعهم الذي هو الصدر (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون ويتجاذبون في طلب الرياسة عند ظهوره قبل الرياضة وفي حالها ، إذ غلبت ملائكة القوى الروحانية بتوفيق الحق بعد الرياضة. وقالت لمريم النفس : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) القلب موهوبا (مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) لأنه يمسحك بالنور (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) لإدراكه الجزئيات وتدبير مصالح المعاش أجود وأصفى وأصوب ما يكون ، فيطيعه ويذعن له ، ويحتشمه ويعظمه ، أنس القوى الظاهرة وجنّ القوى الباطنة (وَ) في (الْآخِرَةِ) لإدراكه المعاني الكليّة والمعارف القدسيّة وقيامه بتدبير المعاد والهداية إلى الحق ، فنعطيه ملكوت سماء الروح ، ونكرمه. ومن جملة مقربي حضرة الحق قابلا لتجلياته ومكاشفاته (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) في مهد البدن (وَكَهْلاً) بالغا إلى قرب طور شيخ الروح ، غالبا عليه بياض نوره (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) لمقام المعرفة.