اعلم انّ المقياس
الّذي يردّ المسلم أفعاله ويبنى عليه احكامه ، إذا لم يحكمه سلطان العرف ، هو كلام
الله المنزل في القرآن ثمّ التأسى بنبيّه ، وبعد ان توفّى النبيّ جرى العمل بسنته
في الامور الّتي لم ينزل فيها نص كتاب. ثمّ اخذ عدد الوقائع الجزئيّة يزداد كل
يوم. وهي وقائع لم ترد فيها نصوص ولم يكن للمسلمين بدّ من الحكم فيها ، اما بما
يتفق مع العرف الموروث او بما يهديهم إليهم الرأي الاجتهادى ولا بدّ أن يكون
القانون الروماني قد ظلّ زمانا طويلا يؤثر تأثيرا كبيرا في ذلك في الشام والعراق
وسمى الفقهاء الّذين جعلوا لرأيهم شأنا في اصرار الحكم إلى جانب الكتاب والسنة «أهل
الرأى» وإمامهم أبو حنيفة (٨٠ ـ ١٥٠ ه) على انّ الفقهاء في المدينة نفسها كانوا ،
قبل ظهور مذهب مالك (٩٥ ـ ١٨٩ ه) ، يستعملون الرأى استعمالا لم يكن به بأس ، وإن
كان قليل المدى ، وكذلك استعمله اهل المذهب المالكى انفسهم. ولكن لما بدأ الناس
يعرضون عن الرأى بالتدريج بعد ان اصبح تعلة لاحكام تقوم على الهوى ، قوى مذهب
القائلين بوجوب الرجوع في كل شيء إلى الحديث المبيّن للسنّة النبويّة ، فجمعت
الاحاديث من كل صوب ، واوّلت بل وضع الكثير منها ، وقرّرت قواعد واصول يعتمد عليها
في تميز صحيح الاحاديث من موضوعها وسقيمها.
وكان من اثر هذا
التطور ان ظهر فريقان : فريق اهل الرأى واكثر ما يكون في العراق ، وفريق اهل
الحديث او اهل المدينة ثم ان الشافعى (١٥٠ ـ ٢٠٤ ه) كان يعتمد في اكثر امره على
السنّة ـ وجعل في عداد اهل الحديث ، تميزا له عن ابى حنيفة.
قال الشهرستانى :
المجتهدون من ائمة الامة محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث : اصحاب الحديث
واصحاب الرأى وانما سموا اصحاب الرأى لانّ عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى
المستنبط من الاحكام ، وبناء الحوادث عليها وربما يقدمون القياس الجلىّ على آحاد
الاخبار ، واصحاب الرأى هم اهل العراق ، اصحاب ابى حنيفة النعمان بن ثابت (الملل
والنحل ١٦١ ـ ١٦٠) راجع أيضا المعارف لابن