ثم تمم قصتهما بعد التقائهما ، فقال :
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))
قلت : (رُشْداً) : مفعول ثانى لعلمت ، أو : علة لأتبعك ، أو : مصدر بإضمار فعله ، أو : حال من كاف (أَتَّبِعُكَ) ، أو : على إسقاط الخافض ، أي : من الرشد ، وفيه لغتان : ضم الراء وسكون الشين ، وفتحهما ، وهو : إصابة الخير ، و (خُبْراً) : تمييز محول عن الفاعل ، أي : لم يحط به خبرك. و (لا أَعْصِي) : عطف على : (صابِراً).
يقول الحق جل جلاله : ولما اتصل موسى بالخضر ـ عليهماالسلام ـ استأذنه فى صحبته ليتعلم منه ، ملاطفة وأدبا وتواضعا ، وكذلك ينبغى لمن يريد التعلم من المشايخ : أن يتأدب ويتواضع معهم. (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي : مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب ، لعلى أرشد به فى دينى. ولا ينافى كونه نبيا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية ؛ إذ لا نهاية لعلمه تعالى ، وقد قال له تعالى فيما تقدم : أعلم الناس من يبتغى علم غيره إلى علمه. روى أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان ، فجاءت خطافة أو عصفور فنقر فى البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض؟ ما علمك وعلمى وعلم الأولين والآخرين فى جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
ولمّا سأله صحبته (قالَ) له : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ؛ لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع ، وأنا أطلعنى الله تعالى على أمور خفية ، لا تتمالك أن تصبر عنها ؛ لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفى صحيح البخاري : «قال له الخضر : يا موسى ، إنى على علم من علم الله علّمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علّمكه الله ، لا أعلمه» (١).
ثم علل عدم صبره بقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)؟ لأنى أتولى أمورا خفية لا خبر لك بها ، وصاحب الشريعة لا يسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة ، (قالَ) له موسى عليهالسلام : (سَتَجِدُنِي إِنْ
__________________
(١) جاء ذلك فى رواية البخاري ، التي أخرجها فى (العلم ، باب ما يستحب للعالم إذا سئل : أىّ الناس أعلم)؟ من حديث أبىّ بن كعب.