قال تعالى فى حق الخضر : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ، هى الوحى والنبوة ، كما يشعر به تنكير الرحمة ، وإضافتها إلى جناب الكبرياء ، وقيل : هى سر الخصوصية ، وهى الولاية. (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) خاصا ، لا يكتنه كنهه ، ولا يقدر قدره ، وهو علم الغيوب ، أو أسرار الحقيقة ، أو علم الذات والصفات ، علما حقيقيا. فالخضر عليهالسلام قيل : إنه نبى ؛ بدليل قوله فيما يأتى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، وقيل : وليّ ، واختلف : هل مات ، أو هو حى؟ وجمهور الأولياء : أنه حي ، وقد لقيه كثير من الصلحاء والأولياء ، حتى تواتر عنهم حياته (١). والله تعالى أعلم.
الإشارة : إنما صار الحوت دليلا لسيدنا موسى عليهالسلام بعد موته وخروجه عن إلفه ، ثم حيى حياة خصوصية لمّا أنفق عليه من عين الحياة ، كذلك العارف لا يكون دالا على الله ، وإماما يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه ، ويخرق عوائد نفسه ، ويفنى عن بشريته ، ويبقى بربه ، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه ، ويصير إماما ودليلا موصلا إليه ، ويظهر منه خرق العوائد ، كما ظهر من الحوت ، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطّاق ، وذلك اقتدار ، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر ، فكان الحوت مظهرا لحاله فى تلك القصة. قاله فى الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك فى قوله : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) : أي اتخذ الحوت ، وجوّز كون فاعل (اتَّخَذَ) : موسى ، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت فى البحر عجبا وخرق عادة ؛ بأن مشى على الماء فى طريق الحوت ، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب ، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة ، وحالة الاقتدار أشرف ، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام ، بخلاف الآخر ، فإن نفعه خاص. ه.
وقوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم ، قال عليه الصلاة والسّلام : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم». وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل ، وتفرغه من العلائق والشواغل ، فإذا كمل تطهير القلب ، وانجذب إلى حضرة الرب ، فاضت عليه العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول ، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول ، بل تسلم لأربابها ، من غير أن يقتدى بهم فى أمرها ، ومنها ما تفيض عليهم فى جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة ، ومنها ما تفيض عليهم فى علوم الشرائع وأسرار الأحكام ، ومنها فى أسرار الحروف وخواص الأشياء ، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.
__________________
(١) بين أهل العلم خلاف فى شأن الخضر ، هل هو نبى أم لا؟ وهل هو حى أم لا؟ ... راجع فى ذلك تفسير : ابن كثير (٣ / ٩٩) ، وفتح الباري (٦ / ٤٣٤) ، والمعالم الصوفية فى قصة سيدنا موسى والخضر ، للأستاذ الدكتور جودة المهدى ، فى حولية كلية أصول الدين بطنطا ، العدد الأول ، / ١٩٨٧ م.