ثم ذكر حال من عرف هذا العلم النازل ، وحال من أنكره ، فقال :
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))
قلت : (أُولئِكَ ..) إلخ : جملة خبر الموصولات ، إن رفعت بالابتداء ، وإن جعلت صفات لأولى الألباب : فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات. و (جَنَّاتُ) : بدل من (عُقْبَى الدَّارِ). و (مَنْ صَلَحَ) : عطف على الواو بفصل المفعول ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : محكى بحال محذوفة ، أي : قائلين سلام عليكم ، وحذف الحال ـ إذا كان قولا ـ كثير مطرد.
يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو (الْحَقُ) فيستجيب له ، وينقاد له (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عمى القلب ، لا يستجيب ولا يستبصر؟ أنكر الحق ـ جل جلاله ـ على من اشتبه عليه الحق من الباطل ، بعد ما ضرب المثل ، فإن الأمور المعنوية ، إذا ضرب لها الأمثال المحسوسة ، صارت فى غاية الوضوح لا تخفى إلّا على الخفافشة ، الذين انطمس نور قلوبهم بالكفر أو المعاصي. ولذلك قال : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ؛ ذوو العقول الصافية والقلوب المنورة ، التي تطهرت من كدر العوائد والشهوات ، ولم تركن إلى المألوفات والمحسوسات.
ثم وصفهم بقوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) ؛ ما عقدوه على نفوسهم من معرفة عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية ، حين قالوا : (بَلى) (١). (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ؛ ما أوثقوه على نفوسهم ، وتحملوه من المواثيق التي بينهم وبين الله ، وبينهم وبين عباد الله. وهو تعميم بعد تخصيص ؛ تأكيدا على الوفاء بالعهود. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من الرحم ، وموالاة المؤمنين ، وحضور مجالس الصالحين ، والعلماء العاملين ، والاقتداء بقولهم والاهتداء بهديهم. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : غضبه وعذابه ، أو إبعاده وطرده ، (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) : مناقشته ، فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
__________________
(١) فى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ..) الآية ١٧٢ من سورة الأعراف.