(وَالَّذِينَ صَبَرُوا) على مشاق الطاعة وترك المخالفة ، أو على ما تكرهه النفوس ، ويخالفه الهوى. فعلوا ذلك (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) ؛ طلبا لرضاه ، أو لرؤية وجهه وشهود ذاته ، لا فخرا ورياء ، وطلبا لحظ نفسانى. (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة ، بحيث حافظوا على شروطها وأركانها ، وحضور السر فيها ، (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال فرضا ونفلا ، (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ؛ إن تحقق الإخلاص ، وإلا تعيّن الإسرار. أو سرا لمن لا يعرف بالمال ، وجهرا لمن يعرف به ؛ لئلا يتهم ، أو ليقتدى به. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : يدفعون الخصلة السيئة بالخصلة الحسنة ، فيجازون الإساءة بالإحسان ؛ امتثالا لقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (١) ، أو : يدفعون الشرك بقول : «لا إله إلا الله» ، أو يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات ، كقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٢). قيل : نزلت فى الأنصار. وهى عامة.
ثم ذكر جزاءهم ، فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي : عاقبة دار الدنيا وما يؤول إليه أهلها. وهى : الجنة التي فسّرها بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة ، (يَدْخُلُونَها) مخلدين فيها. والعدن : الإقامة ، وقيل : هى بطنان الجنة ، أي : مداخلها لا ربضها ، فيدخلونها (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي : يلحق بهم من صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغ فى العمل مبلغهم ، تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، أو بشفاعتهم لهم. وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقرب بعضهم من بعض ـ لما بينهم من القرابة والوصلة ـ فى دخول الجنة ؛ زيادة فى أنسهم ، لكن يقع التفاوت فى الدرجات والنعيم والقرب ، على قدر اجتهادهم فى التحقق بتلك الصفات ، والدءوب عليها. والتقييد بالصلاح يدل على أن مجرد الانتساب لا ينفع من غير عمل.
(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب المنازل ، أو من أبواب الفتوح والتحف ، قائلين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ؛ بشارة بدوام السلامة ، هذا (بِما صَبَرْتُمْ) ، أو سلامة لكم بسبب صبركم. (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) التي سكنوها ورحلوا عنها دارهم هذه.
الإشارة : أفمن تصفّت مرآة قلبه من الأكدار والأغيار ، حتى أبصرت أمطار العلوم والأسرار النازلة من سماء الملكوت على النبي المختار ، فتضلع منها حتى امتلأ منها قلبه وسره ، ونبع بأنهار العلوم لسانه وفكره ، كمن هو أعمى القلب والبصيرة ، فلم يرفع بذلك رأسا؟ إنما ينتفع بتلك العلوم أولوا القلوب الصافية التي ذهب خبثها ، فصفت علومها وأعمالها وأحوالها من زبد المساوئ والعيوب ، الذين دخلوا تحت تربية المشايخ ، فأوفوا بعهودهم ، وواصلوهم ،
__________________
(١) من الآية ٩٦ من سورة المؤمنون.
(٢) من الآية ١١٤ من سورة هود.