ومثّل العمل الخالص الذي تصفّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه ؛ لتصنع منه السيوف والآلات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأوانى ، وغيرها مما ينفع به الناس.
ومثّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى ، أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ؛ ليصنع بهما الحلي والحلل ؛ ليتزين بها أهلها ، فأشار إلى المثال الأول ـ وهو العلم ـ بقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلخ. وأشار الى الحال بقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) ، وأشار إلى العمل بقوله : (أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ). وقدّم الحال ، لشرفه ، ومثّله بالذهب والفضة ؛ لزيادة الرغبة فيه ؛ لأنه ثمرة العمل ، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق ، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.
والحاصل : أن المراتب أربعة : العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلا للمقام ؛ لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية ، فليس فيه علة ، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجرى فيها العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. فالتوبة مثلا : يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها ، وفضليتها ، ثم يسعى فى العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه ، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط ، وهذا هو الحال ، ثم تطمئن النفس ، وترسخ التوبة النصوح ، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر ، يتعلق به العلم أولا ثم يسعى فى مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه ، وهكذا يجرى فى المقامات كلها .. وهى اثنا عشر مقاما : التوبة ، والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة. وهى : بروج شمس المعرفة ، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان : يتعلق العلم أولا بأسرار التوحيد ، ثم يعمل فى خرق عوائد نفسه حتى تموت ، فيشرق عليها أنوار التوحيد ، غير أنها تظهر وتخفى ، ثم يصير الشهود مقاما ، رسوخا وتمكينا.
وقد أشار فى الحكم إلى بعض هذا فقال : «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال». وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه ؛ فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق ، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه ، أو التوصل إلى الدنيا ، ويذهب به الشكوك والأوهام ؛ فهذا زبده. وتصفية العمل بالإخلاص فى أوله ، والإتقان والحضور فى وسطه ، والكتمان فى آخره ، فيذهب عنه الرياء والعجب به ، والتوصل به إلى حظ نفسانى. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة ، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها ، فيذهب به قصد الظهور ، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية ، التي هى من حظ النفس وتشتيت القلب ، إن لم يفرد وجهته لله ، وانحلال عزمه وخمود نوره ، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس ، ويمكث فى أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل فى مقام العبودية. وبالله التوفيق.