ثم بيّن ما أوحى إليها فقال : (أَنِ اتَّخِذِي) ، أو بأن اتخذي (مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) تأوين إليها ، كالكهوف ونحوها ، (وَمِنَ الشَّجَرِ) بيوتا ، كالأجباح (١) ونحوها ، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي : يهيئون ، أو يبنون لك الناس من الأماكن ، وإلا لم تأو إليها. وذكرها بحرف التبعيض ؛ لأنها لا تبنى فى كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ؛ من كرم أو سقف ، ولا فى كل مكان منها. وإنما سمى ما تبنيه ، لتتعسل فيه ، بيتا ؛ تشبيها ببناء الإنسان ؛ لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة ، التي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين إلا بآلات وأنظار دقيقة. ولعل ذكره : للتنبيه على ذلك. قاله البيضاوي. قلت : وليس للنحل فعل فى الحقيقة ، وإنما هو صنع العليم الحكيم فى مظاهر النحل.
ثم قال لها : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) التي تشتهيها ، حلوها ومرها. قيل : إنها ترعى من جميع النوار إلا الدفلة (٢). (فَاسْلُكِي) أي : ادخلى (سُبُلَ رَبِّكِ) ؛ طرقه فى طلب المرعى ، أو : فاسلكى ؛ راجعة إلى بيوتك ، سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس. وأضافها إليه ؛ لأنها خلقه وملكه. (ذُلُلاً) : مطيعة منقادة لما يراد منك ، أو اسلكى طرقه ؛ مذللة مسخرة لك ، فلا تعسر عليك وإن توعرت ، ولا تضل عن العود منها وإن بعدت. قال مجاهد : لم يتوعّر على النحل قط طريق.
(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وهو العسل ، عدل عن خطاب النحل إلى خطاب الناس : لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه ؛ لأجلهم. وسماه شرابا ؛ لأنه مما يشرب. وظاهر الآية أن العسل يخرج من بطون النحل ، وهو ظاهر كلام سيدنا على بن أبى طالب رضي الله عنه فى تحقيره للدنيا ، قال : (أشرف لباس ابن آدم فيها نفثة دود ، وأشرف شراب فيها رجيع نحلة ـ أو قىء نحلة ـ ، وأشرف لذة فيها مبال فى مبال). وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل. قاله ابن عطية. قلت : والذي ألفيناه ، ممن يتعاطاهم ، أنه يخرج من دبرهم.
وقوله : (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي : أبيض ، وأحمر ، وأسود ، وأصفر ، بحسب اختلاف سن النحل ، ومراعيها. وقد يختلف طعمه ورائحته باختلاف مرعاه. ومنه قول عائشة للنبى ـ عليه الصلاة والسلام : (جرست نحله العرفط) (٣) وهو نبت منتن الرائحة ، شبهت رائحته برائحة المغافير (٤).
ثم قال تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ؛ إما بنفسه ، كما فى الأمراض البلغمية ، أو مع غيره ، كما فى سائر الأمراض ، إذ قلما ما يكون معجون إلا والعسل جزء منه. قاله البيضاوي. قال السيوطي : قيل : لبعضها ، كما دل
__________________
(١) الجبح : هى مواضع النحل فى الجبل ، وفيها تعسل ، وقيل : الأجباح : حجارة الجبل .. انظر اللسان ـ جبح.
(٢) الدفلة : نبت مرّ ، أخضر ، حسن المنظر انظر .. اللسان (دخل ، ٢ / ١٣٩٧).
(٣) جاء ذلك فى حديث شرب النبي صلىاللهعليهوسلم العسل. وأخرجه البخاري فى (الطلاق ، باب لم تحرم ما أحل الله لك). والعرفط ـ بالضم ـ : شجر الطّلح ، وله صمغ كريه الرائحة ، فإذا أكلته النحلة حصل فى عسلها من ريحه. انظر النهاية (عرفط).
(٤) المغافير : جمع مغفور ومغفار ، وهو صمغ حلو ، له رائحة كريهة ، يسيل من شجر العرفط ، يؤكل ، أو يوضع فى ثوب ، ثم ينضح بالماء ، فيشرب. انظر اللسان (غفرة ٥ / ٣٢٧٥).