الإشارة : كما استخرج الحق ، جل جلاله ، من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، استخرج مذهب أهل السنة ، القائلين بالكسب ، من بين مذهب الجبرية ومذهب المعتزلة ، بين قوم أفرطوا ، وقوم فرطوا. واستخرج أيضا مذهب الصوفية ـ أعنى : المحققين منهم ـ من بين الواقفين مع ظاهر الشريعة والمتمسكين بمجرد الحقيقة ، بين قوم تفسقوا وقوم تزندقوا ، بين قوم وقفوا مع عالم الحكمة ، وقوم وقفوا مع شهود القدرة من غير حكمة ، وهو ، إن لم يكن عن غلبة سكر ، كفر. واستخرج ، أيضا ، مذهب أهل التربية من بين سلوك محض وجذب محض ، فأهل السلوك المحض محجوبون عن الله ، وأهل الجذب المحض غائبون عن طريق الله ، وأهل التربية برزخ بين بحرين ، الجذب فى بواطنهم ، والسلوك على ظواهرهم. ولا يعرف هذا إلا من شرب مشربهم ، قد أخذوا من ثمرات نخيل الشرائع وأعناب الحقائق ، سكرا فى قلوبهم ، بشهود محبوبهم ، ورزقا حسنا ؛ معرفة فى أسرارهم ، وعبودية فى ظواهرهم ، فصاروا جامعين بين جذب الحقائق وسلوك الشرائع ، كل واحد فى محله. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلا آخر ، فقال :
(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))
قلت : (أَنِ اتَّخِذِي) : مفسرة للوحى الذي أوحى إلى النحل ، أو مصدرية ، أي : بأن اتخذي. و (مِنَ) : للتبعيض فى الثلاثة مواضع ، (ثُمَّ كُلِي) : عطف على (اتَّخِذِي). و (مِنْ) : للتبعيض ؛ لأنها لا تأكل من جميع الشجر ، وقيل : من كل الثمرات التي تشتهيها ، فتكون للبيان. و (ذُلُلاً) : حال من السبل ، أو من الضمير فى (فَاسْلُكِي).
يقول الحق جل جلاله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي : ألهمها ، وقذف فى قلوبها ذلك. والوحى على ثلاثة أقسام : وحي إلهام ، ووحي منام ، ووحي أحكام. وقال الراغب : أصل الوحى : الإشارة السريعة ، إما بالكلام ؛ رمزا ، وإما بصوت مجرد عن التركيب ، أو بإشارة ببعض الجوارح ، والكناية. ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى الأنبياء : وحي ، وذلك أضرب ؛ إما برسول مشاهد ، وإما بسماع كلام من غير معاينة ، كسماع موسى كلام الله ، وإما بإلقاء فى الروع ، وإما بإلهام ، نحو : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) (١) ، وإما تسخير ، كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، أو بمنام ، كقوله صلىاللهعليهوسلم : «انقطع الوحى ، وبقي المبشرات ؛ رؤيا المؤمن» (٢).
__________________
(١) من الآية ٧ من سورة القصص.
(٢) أخرجه البخاري فى (التعبير ، باب المبشرات) ، بلفظ : «لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة» من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.