كأخلاق وأكباش ، فهو ، عنده ، اسم جمع ، كقوم ورهط ، فلفظه مفرد ومعناه جمع ، فذكّره هنا ؛ مراعاة للفظه ، وأنثه ، فى سورة المؤمنين ؛ مراعاة لمعناه. ومن قال : إنه جمع «نعم» ، جعل الضمير للبعض ؛ فإن اللبن لبعضها دون جميعها.
و (من) فى قوله : (مِمَّا) للتبعيض ، و (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) ؛ لابتداء الغاية ، و (مِنْ ثَمَراتِ) : يتعلق بمحذوف ، أي : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، يدل عليه (نُسْقِيكُمْ) الأول. و (تَتَّخِذُونَ) : استئناف لبيان الإسقاء ، أو يكون (ثَمَراتِ) : عطفا على (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، أو يتعلق (مِنْ ثَمَراتِ) بتتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل سكرا. وكرر (مِنْهُ) للتأكيد ، أو يكون (تَتَّخِذُونَ) : صفة لمحذوف ، أي : شىء تتخذون منه سكرا.
يقول الحق جل جلاله : (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها الناس ، (فِي الْأَنْعامِ) وهى : الإبل والبقر والغنم ، (لَعِبْرَةً) ظاهرة تدل على كمال قدرته ، وعجائب حكمته ، وهى أنا (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي : بعض ما استقر فى بطونه من الغذاء ، (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) ؛ وهو ما فى الكرش من القذر ، (وَدَمٍ) ؛ وهو ما تولد من لباب الغذاء ، (لَبَناً خالِصاً) من روائح الفرث ، صافيا من لون الدم. والمعنى : أن الله يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، ومع ذلك فلا يغير له لونا ولا طعما ولا رائحة. وعن ابن عباس : (إن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف فى كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما). ثم وصفه بقوله : (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ؛ سهل المرور فى حلقهم ، حتى قيل : لم يغصّ أحد قط من اللبن. وروى ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم (١).
(وَ) نسقيكم ، أيضا ، (مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) أي : من عصيرهما. ثم بيّن كيفية الإسقاء فقال : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) أي : مما ذكر (سَكَراً) يعنى : الخمر ، سميت بالمصدر ، ونزل قبل تحريم الخمر ، فهى منسوخة بالتحريم. وقيل : هى على وجه المنة بالمنفعة التي فى الخمر ، ولا تعرّض فيها لتحليل الخمر ولا تحريم ، وهذا هو الصحيح. وفى دعوى النسخ نظر ؛ لأن النسخ إنما يكون فى الأحكام المشروعة المقررة ، وهنا ليس كذلك ، إنما فيه امتنان واعتبار فقط. (وَ) تتخذون من ثمراتها (رِزْقاً حَسَناً) ؛ كالتمر ، والزبيب ، والدبس ـ وهو ما يسيل من الرطب ـ ، والخلّ ، والربّ (٢) ، وقيل : السّكر : المائع من هاتين الشجرتين ؛ كالخل ، والرّب ، والرزق الحسن : العنب والتمر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالة على كمال قدرته تعالى ، (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ يستعملون عقولهم بالتأمل ، والنظر فى الآيات.
__________________
(١) روى ذلك بلفظ : «ما شرب أحد لبنا فيشرق» ، عزاه السيوطي ، فى الدر (٤ / ٢٨) ، لابن مردويه عن يحيى بن أبى كبشة عن أبيه عن جده ؛ مرفوعا.
(٢) الرّبّ : ما يطبخ من التمر ... انظر : النهاية (ربب ٢ / ١٨١).