يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) أي : بكفرهم ومعاصيهم الصادرة من بعضهم ، (ما تَرَكَ عَلَيْها) أي : على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) : نسمة تدب عليها ، بشؤم ظلمهم. وعن ابن مسعود : (كاد الجعل (١) يهلك فى جحره بذنب ابن آدم). وقيل : لو هلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء ، (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) سماه لأعمارهم ، أو لعذابهم ، (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عليه ، بل يهلكون ، أو يعذبون حينئذ لا محالة ، فالحكمة فى إمهال أهل الكفر والمعاصي ؛ لئلا يعم العذاب ، كقوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٢) ، و (لعل الله تعالى يخرج من أصلابهم من يوحد الله). والله تعالى أعلم.
الإشارة : إن الله يهم أن ينزل إلى أهل الأرض عذابا ؛ لما يرى فيهم من كثرة الظلم والفجور ، فإذا رأى حلق الذكر ومجالس العلم رفع عنهم العذاب. وفى بعض الأخبار : «لو لا شيوخ ركع ، وصبيان رضّع ، وبهائم رتّع ، لصبّ عليكم العذاب صبّا». (٣).
ثم ذكر وعيد الكفار ، فقال :
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
قلت : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) : بدل من (الْكَذِبَ) ، ومن قرأ (مُفْرَطُونَ) ؛ بالكسر ، فاسم فاعل من الإفراط ، وهو : تجاوز الحد ، ومن قرأها بالفتح ؛ فاسم مفعول ، من أفرط فى طلب الماء ، إذا قدمه. ومن قرأ بالتشديد ؛ فمن التفريط.
يقول الحق جل جلاله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات ، والشركاء فى الرئاسة وأراذل الأموال ، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مع ذلك ، وهو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) عند الله ، وهى الجنة. وهذا كقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) (٤). قال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي : لا شك ، أو حقا أن لهم النار ، (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) ؛ مقدّمون إليها ، أو متركون فيها ، أو مفرطون فى المعاصي والظلم ، متجاوزون الحد فى ذلك. أو مفرطون فى الطاعة ؛ من التفريط.
__________________
(١) الجعل : حيوان كالخنفساء ... انظر : النهاية (جعل ، ١ / ٢٧٧).
(٢) من الآية ٢٥ من سورة الأنفال.
(٣) أخرجه البيهقي فى الكبرى (صلاة الاستسقاء ، باب استحباب الخروج بالضعفاء والصبيان ٣ / ٣٤٥) والطبراني فى الأوسط (ح ٦٥٣٩) ، وابن عدى فى الكامل (٤ / ١٦٢٢) عن مالك بن عبيدة الديلي ، عن أبيه ، عن جده.
(٤) من الآية ٥٠ من سورة فصلت.