ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر ـ وهو إنكار البعث والتكبر ـ فقال : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي : فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى ، وهم مستكبرون عن اتباع الرسل فيما جاءوا به ، والخضوع لهم ؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل ، متأملا فيما يسمع ، فينتفع به ، خاضعا للحق ، متبعا لمن جاء به ، بخلاف الكافر ، يكون حاله بالعكس ؛ منهمكا فى الغفلة ، متبعا للهوى ، ينكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان (١) ، اتباعا للأسلاف ، وتقليدا لهم ، وركونا إلى المألوف.
قال تعالى ؛ تهديدا لمن هذا وصفه : (لا جَرَمَ) : لا بد ، أو لا شك ، أو حقّ (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، فيجازيهم عليه ؛ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) مطلقا ، فضلا عن الذين استكبروا عن توحيده واتباع رسوله. ومفهومه : أنه يحب المتواضعين الخاضعيين للحق ، ولمن جاء به ، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق ، وتعلقها بالخالق فى جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شىء ، قادر على كل شىء ، دائم لا يموت ، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) ، (والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء). وأنشدوا فى هذا المعنى :
حرام على من وحّد الله ربّه |
|
وأفرده أن يحتذى أحدا رفدا |
فيا صاحبى قف بي على الحقّ وقفة |
|
أموت بها وجدا ، وأحيا بها وجدا |
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها |
|
فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى |
والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده ، وتقريبه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد فى هذه الدار الفانية ، والاستعداد والتأهب للدار الباقية ، وبه تلين القلوب ، وتتحقق بعلم الغيوب ، وبه يحصل الخضوع للحق ، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره ، أو استبعده ، قال تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).
__________________
(١) هذا من سمات المؤمنين ، وليس الكافرين ، فالكافرون : لا برهان لهم ؛ (.. لا برهان له به ..) ، (قل هاتوا برهانكم ..) .. (قل هل عندكم من علم ..) (لو لا يأتون عليهم بسلطان).
ويرحم الله أسلافنا ، علمونا ذلك ، فنقلنا عنهم هذه القاعدة : (إن كنت ناقلا ـ فالصحة ، وإن كنت مدّعيا : فالدليل) ، والله ـ تقدس وتعالى ـ أمرنا ألا نتبع إلا ما قام عليه الدليل ، (ولا تقف ما ليس لك له علم) ، والعلم هو ما قام عليه البرهان الجلي.