الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نصبت للآدمى ، وخلقت من أجله ، السماوات تظله ، والأرض تقله ، والحيوانات تخدمه وتنفعه ، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله فى ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم ، وألا يقف معها ، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى ، فى بعض كلامة بلسان الحال أو المقال : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلى ، فلا تشتغل بما خلق لأجلك عمّا خلقت لأجله». والواجب عليه أيضا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها ، دون النفوذ إلى أسرار معانى خالقها ومظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونا بمحيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني ، المحيط بالأوانى ، والمفنى لها ، بصحبة شيخ كامل ، يخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوّن. وبالله التوفيق.
وقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ بيّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسى والفوز برضوانه ، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه ، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء ، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح ، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح ، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١). فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدل الحجاب ، وهم أهل الشرائع ، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب ، وهم أهل الحقائق ، وهم المقربون ، نفعنا الله بهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.
ثم ذكر بقية التجليات ، فقال :
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي
__________________
(١) من الآية ٧٢ من سورة التوبة.