وأما قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢] ، فإن الناس يختلفون في مطاعمهم : فمنهم من يأكل الوجبة ، ومنهم من عادته الغداء والعشاء ، ومنهم من يزيد عليهما ، ومنهم من يأكل متى وجد لغير وقت ولا عدد. فأعدل هذه الأحوال للطّاعم وأنفعها ، وأبعدها من البشم (١) والطّوى (٢) على العموم ـ الغداء والعشاء. والعرب تكره الوجبة ، وتستحبّ العشاء ، وتقول : ترك العشاء مهرمة ، وترك العشاء يذهب بلحم الكاذة (٣).
وقد بيّنت معناهم في هذا القول في كتاب (غريب الحديث).
ونحن لا نعرف دهرا لا يختلف له وقت ، ولا يرى فيه ظلام ولا شمس ، فأراد الله جل وعز أن يعرّفنا من حيث نفهم ونعلم ، أحوال أهل الجنة في مأكلهم ، واعتدال أوقات مطاعمهم ، فضرب لنا البكرة والعشيّ مثلا ، إذ كانا يدلّان على العشاء والغداء.
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، أنه قال : كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه ذلك. فأخبرهم الله تبارك وتعالى أن لهم في الجنة هذه الحال التي تعجبهم في الدنيا.
وأما قوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، فإنه لم يرد أن ذلك يكون في الآخرة ، وإنما أراد أنهم يعرضون عليها بعد مماتهم في القبور.
وهذا شاهد من كتاب الله لعذاب القبر ، يدلّك على ذلك قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، [غافر : ٤٦] فهم في البرزخ يعرضون على النار غدوّا وعشيّا ، وفي القيامة يدخلون أشد العذاب.
وأما قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] ، ولم يأت بالشيء الذي جعل له الجنة مثلا ـ فإن أصل المثل ما ذهبوا إليه من معنى المثل ، تقول : هذا مثل الشيء ومثله ، كما تقول : هذا شبه الشيء وشبهه.
ثم قد يصير المثل بمعنى الشيء وصفته ، وكذلك المثال والتّمثال ، يقال للمرأة الرّائقة : كأنها مثال ، وكأنها تمثال ، أي صورة ، كما يقال : كأنها دمية ، أي صورة ، وإنما هي مثل ، وقد مثّلت لك كذا ، أي صوّرته ووصفته.
فأراد الله بقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ، أي صورتها وصفتها.
__________________
(١) البشم : التخمة.
(٢) الطوى : الجوع.
(٣) الكاذة : لحم مؤخر الفخذين.