وإنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا ، لأن السّعداء حين يموتون يصيرون بما شاء الله من لطفه وقدرته ، إلى أسباب من أسباب الجنة ، ويتفاضلون أيضا في تلك الأسباب على قدر منازلهم عند الله : فمنهم من يلقّى بالرّوح والرّيحان ، ومنهم من يفتح له باب إلى الجنة ، ومنهم الشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق في الجنة. أي تأكل ، قال الشاعر (١) :
إن تدن من فنن الألاءة تعلق
وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين يطير مع الملائكة في الجنة.
والله يقول : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)) [آل عمران : ١٦٩].
أفما ترى أنهم عندنا موتى وهم في الجنة متّصلون بأسبابها؟ فكيف لا يجوز أن يستثنى من مكثهم فيها الموتة الأولى؟.
وأما قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)) [مريم : ٩٦] ، فإنه ليس على تأوّلهم ، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة. فأنت ترى المخلص المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر ، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قول الله سبحانه في قصة موسى صلىاللهعليهوسلم : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، ولم يرد في هذا الموضع أني أحببتك ، وإن كان يحبه ، وإنما أراد أنه حبّبه إلى القلوب ، وقرّبه من النفوس ، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ، حتى استحياه في السّنة التي كان يقتل فيها الولدان.
وأما قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩)) [النبأ : ٩] ، فليس السّبات هاهنا : النوم ، فيكون معناه : وجعلنا نومكم نوما. ولكن السّبات الراحة : أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه قيل : يوم السبت ، لأن الخلق اجتمع في يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت ، فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا شيئا ، فسمّي يوم السبت ، أي يوم الراحة. وأصل السبت : التّمدّد ، ومن تمدّد استراح. ومنه قيل : رجل مسبوت ، ويقال : سبتت المرأة شعرها : إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السّعدي (٢) :
__________________
(١) صدر البيت :
أو فوق طاوية الحشى رمليّة
والبيت من الكامل ، وهو للكميت في تاج العروس (علق) ، وليس في ديوانه.
(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى ٢ / ١٥ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٤٠٩.