أي غطاها. وهذا مثل قوله تعالى : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح : ٢٩].
وأما قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧] ، فإن للعرب في معنى (الأبد) ألفاظا يستعملونها في كلامهم ، يقولون : لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار ، وما طمى البحر ، أي ارتفع ، وما أقام الجبل ، وما دامت السموات والأرض ، في أشباه لهذا كثيرة ، يريدون لا أفعله أبدا ، لأن هذه المعاني عندهم لا تتغير عن أحوالها أبدا ، فخاطبهم الله بما يستعملونه فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مقدار دوامهما ، وذلك مدة العالم. وللسماء وللأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ، ويقول : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤].
أراد أنهم خالدون فيها مدة العالم ، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. ثم قال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] أي غير مقطوع.
و (إلّا) في هذا الموضع بمعنى (سوى) ومثله من الكلام : لأسكننّ في هذه الدار حولا إلا ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول.
هذا وجه. وفيه (قول آخر) ، وهو : أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وإن كانتا قد تتغيّران ، وتستثنى المشيئة من دوامهما ، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة ، فكأنه قال : خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض ، إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وفيه (وجه ثالث) : وهو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة الله ، وشفاعة رسوله ، فيخرجوا منها إلى الجنة. فكأنه قال سبحانه : خالدين في النار ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين من المسلمين إلى الجنة ، وخالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض ، إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة من المدد ، ثم يصيرون إلى الجنة.
وأما قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] ، فإن (إلّا) في هذا الموضع أيضا بمعنى (سوى). ومثله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي.