وأكثر الناس على أنهما سورتان ، على ما في مصحفنا ، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ ، على مذهب العرب في التضمين.
والمعنى أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليها فيه ، وأنّ يعرض لها أحد بسوء إذا خرجت منه لتجارتها. وكانوا يقولون : قريش سكان حرم الله ، وأهل الله وولاة بيته. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع ، ولا شجر ولا مرعى ، وإنما كانت تعيش فيه بالتجارة ، وكانت لهم رحلتان في كل سنة : رحلة إلى اليمن في الشتاء ، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يمكن به مقام ، ولولا الأمن بجوارهم البيت ، لم يقدروا على التصرّف.
فلمّا قصد أصحاب الفيل إلى مكة ليهدموا الكعبة وينقلوا أحجارها إلى اليمن فيبنوا به هناك بيتا ينتقل به الأمن إليهم ، ويصير العزّ لهم ، أهلكهم الله سبحانه ، لتقيم قريش بالحرم ، ويجاوروا البيت ، فقال يذكر نعمته : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)) [الفيل : ١ ، ٥]. (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١]. أي : فعل ذلك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بهما تعيشّهم ومقامهم بمكة تقول : ألفت موضع كذا : إذا لزمته ، وآلفنيه الله ، كما تقول : لزمت موضع كذا ، وألزمنيه الله.
وكرّر (لإيلاف) كما تقول في الكلام : أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس ، فتكرّر الكلام للتوكيد ، على ما بينا في (باب التكرار).
ثم أمرهم بالشكر فقال : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) [قريش : ٣ ، ٤] في هذا الموضع الجديب من الجوع ، وآمنهم فيه ، والناس يتخطّفون حوله من الخوف.
في سورة النحل
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)) [النحل : ٤٨].
تفيؤ الظّلال : رجوعها من جانب إلى جانب ، فهي مرة تجاه الشّخص ، ومرة وراءه ، ومرة عن يمينه ، ومرة عن شماله.
وأصل الفيء : الرّجوع ، ومنه قيل للظل في العشيّ : فيء ، لأنه فاء ، أي رجع من جانب إلى جانب. ومنه الفيء في الإيلاء إنما هو : الرّجوع إلى المرأة.