قلت : (ها أنتم) : أصله : أنتم ، دخلت عليه هاء التنبيه ، وقال الأخفش : أصله : أأنتم ، فقلبت الهمزة الأولى هاء ، كقوله : هرقت. وتوجيه القراءات معلوم فى محله ، و (أنتم) : مبتدأ ، و (هؤلاء) : خبره ، و (حاججتم) : جملة مبينة للأولى ، أو (حاججتم) : خبر ، و (هؤلاء) : منادى بحذف النداء ، و (حنيفا) : حال ، أي : مائلا عن الأديان إلا دين الإسلام.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) ، ويدعى كل فريق أنه كان على دينه ، (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) ، فكيف يكون يهوديا ، ودينكم إنما حدث بعد إبراهيم بألف سنة؟! وكيف يكون نصرانيا ، ودين النصرانية إنما ظهر بعد إبراهيم بألفى سنة؟! (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتدعون المحال ، (ها أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ) الحمقى (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من أمر محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ونبوته ، مما وجدتموه فى التوراة والإنجيل ، فأنكرتموه عنادا وحسدا ، فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ، ولا ذكر فى كتابكم من شأن إبراهيم؟ (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما خاصمتم فيه ، (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، بل أنتم جاهلون.
ثم صرح بتكذيب الفريقين فقال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مائلا عن العقائد الزائفة ، (مسلما) منقادا لأحكام ربه. وليس المراد أنه كان على ملة الإسلام ، وإلا لكان مشترك الإلزام ، لأن دين الإسلام مؤخر أيضا ، فكان إبراهيم إمام الموحدين ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما عليه اليهود والنصارى والمشركون. ففيه تعريض بهم ، ورد لادعائهم أنهم على ملته.
ثم ذكر من أولى الناس به ، فقال : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) أي : أخصهم به وأقربهم منه ، (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) من أمته فى زمانه ، (وَهذَا النَّبِيُ) محمد صلىاللهعليهوسلم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ؛ لموافقتهم له فى أكثر الأحكام ، قال صلىاللهعليهوسلم : «لكلّ نبىّ ولاة من النّبيّين ، وإنّ وليّى منهم أبى وخليل ربّى». يعنى : إبراهيم عليهالسلام ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ناصرهم على سائر الأديان ، ومجازيهم بغاية الإحسان.
الإشارة : ترى كثيرا من المتفقرة يخصون الكمال بطريقهم ، ويخاصمون فى طريق غيرهم ، وهى نزعة أهل الكتاب ، حائدة عن الرشد والصواب ، فأولى بالحق من اتبع السنة المحمدية ، وتخلق بالأخلاق المرضية ، وزهد فى الدارين ، ورفع همته عن الكونين ، ورفع حجاب الغفلة عن قلبه ، حتى أشرقت عليه أنوار ربه ، واتصل بأهل التربية النبوية ، فزجوا به فى بحار الأحدية ، ثم ردوه إلى مقام الصحو والتكميل ، فياله من مقام جليل ، فهذه ملة إبراهيم الخليل ، وبها جاء الرسول الجليل حبيب الرحمن ، وقطب دائرة الزمان ، سيد المرسلين ، وإمام العارفين ، ورسول رب العالمين ، صلىاللهعليهوسلم دائما إلى يوم الدين.