الإشارة : لا ينبغى للمريد الصادق أن يخالط أهل الغفلة ، ولا يتودد معهم ؛ فإن ذلك يقطعه عن ربه ، ويصده عن دواء قلبه ، وفى ذلك يقول صاحب العينية :
وقاطع لمن واصلت أيّام غفلة |
|
فما واصل العذال إلّا مقاطع |
وجانب جناب الأجنبى لو أنّه |
|
لقرب انتساب فى المنام مضاجع |
فللنّفس من جلّاسها كلّ نسبة |
|
ومن خلّة للقلب تلك الطّبائع |
إلا أن يتقى منهم تقية ، بحيث تلجئه الضرورة إلى مخالطتهم ، فيخالطهم بجسمه ويفارقهم بقلبه ، وقد حذّر الصوفية من صحبة أربع طوائف : الجبابرة المتكبرون ، والقراء المداهنون ، والمتفقرة الجاهلون ، والعلماء المتجمدون ؛ لأنهم مولعون بالطعن على أولياء الله ، يرون ذلك قربة تقربهم إلى الله.
ثم قال : (ويحذركم الله نفسه) أن تقصدوا معه غيره ، وهذا خطاب للسائرين بدليل تعقيبه بقوله : (وإلى الله المصير) أي : إليه ينتهى السير وإليه يكون الوصول ، ثم شدد عليهم فى المراقبة فقال : (إن تخفوا ما فى صدوركم) من الميل أو الركون إلى الغير أو الوقوف عن السير ، (أو تبدوه يعلمه الله) ؛ فينقص عنكم المدد بقدر ذلك الميل ، يظهر ذلك يوم الدخول إلى بلاد المشاهدة ، (يوم تجد كل نفس) ما قدمت من المجاهدة ، فبقدر المجاهدة تكون المشاهدة. ثم خاطب الواصلين فقال : (ويحذركم الله نفسه) من أن تشهدوا معه سواه ، فلو كلف الواصل أن يشهد غيره لم يستطع ، إذ لا غير معه حتى يشهده. ويدل على أن الخطاب هنا للواصلين تعقيبه بالمودة والرأفة ، اللائقة بالواصلين المحبوبين العارفين الكاملين. خرطنا الله فى سلكهم بمنّه وكرمه.
ثم لا طريق للوصول إلى هذا كله إلا باتباع الرسول الأعظم ، كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى :
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))
قلت : قد تقدم الكلام على حقيقة المحبة عند قوله (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). وقال البيضاوي هنا : المحبة ميل النفس إلى الشيء لإدراك كمال فيه ، بحيث يحملها ـ أي الميل ـ إلى ما يقربها إليه ، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله ، وأن ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله وبالله وإلى الله ، لم يكن حبه إلا لله وفى الله ، وذلك يقتضى إرادة طاعته ، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة ، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول فى عبادته ، والحرص على مطاوعته. ه.