فصار تسنّى ثم حذفت للجازم ، وأتى بهاء السّكت ، وقفا ووصلا ، كالعوض من المحذوف ، وقيل : من السنّه ، وهو التغير ، فالهاء أصلية ، و (لنجعلك) : معطوف على محذوف ، أي : لتعتبر ولنجعلك آية للناس.
يقول الحق جل جلاله : ألم تر يا محمد أيضا إلى مثل الذي (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) ، وهو عزيز ، حبر بنى إسرائيل. ـ وقيل : غيره ـ مرّ على بيت المقدس حين خربها بختنصر (وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة حيطانها (عَلى عُرُوشِها) أي : سقفها ، وذلك بعد مائة سنة حتى سقطت العروش ، ثم سقطت الحيطان عليها ، فلما رآها خالية ، وعظام الموتى فيها بالية ، (قالَ) فى نفسه : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) أي : متى يقع هذا. اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظاما لقدرة المحيي ، إن كان القائل عزيرا ، أو استبعادا إن كان كافرا ، (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) أي : ألبثه ميتا مائة عام ، (ثُمَّ بَعَثَهُ) بالإحياء ، فقال له على لسان الملك ، أو بلا واسطة : (كَمْ لَبِثْتَ) ميتا؟ (قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وذلك أنه مات ضحى وبعث بعد مائة عام قبل غروب الشمس ، فقال قبل النظر إلى الشمس (يوما) ، ثم التفت فرأى بقية منها ، فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) على الإضراب ، قال له الحق جل جلاله : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ).
وذلك أن عزيرا ذهب ليخترف (١) لأهله فجعل على حماره سلة عنب وجرّة عصير. فلما مرّ بتلك القرية ربط حماره ، وجعل يتعجب من خرابها وخلائها بعد عمارتها ، فقال فى نفسه ما قال ، فلطف الله به ، وأراه كيفية الأحياء عيانا ، فأماته مائة عام ، حتى بليت عظام حماره وبقي العصير والعنب كأنه حين جنى وعصر فقال له جل جلاله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وهو العنب ، (وَشَرابِكَ) وهو العصير ، (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ، أي : لم يتغير بمرور الزمان وطول المدة ، (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تفرقت أوصاله ، وبليت عظامه ، فعلنا ذلك بك لتشاهد قدرتنا ، (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) بعدك ، (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) أي : عظام حمارك ، (كَيْفَ نُنْشِزُها) ، أي : نحييها ، من نشر الله الموتى : أحياها. أو : (كَيْفَ نُنْشِزُها) بالزاي ـ أي : نرفع بعضها ، ونركبه عليه ، (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً).
فنظر إلى العظام ، فقام كلّ عظم إلى موضعه ، ثم كسى لحما وجلدا ، وجعل ينهق ، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) ما كان استغربه وأشكل عليه (قالَ أَعْلَمُ) علم اليقين (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، أو فلما تبين له الحق ، وهو قدرته تعالى على كل شىء ، قال لنفسه : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
__________________
(١) خرف الرجل يخرف : أخذ من طرف الفواكه ، والمعنى : ذهب ليجتنى الثمر والفواكه.