الإشارة : قال بعض الحكماء : للنفس سر ، ظهر على فرعون والنمرود ، حتى صرحا بدعوى الربوبية. قلت : وهذا السر هو ثابت للروح فى أصل نشأتها ؛ لأنها جاءت من عالم العز والكبرياء. انظر قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، وقال أيضا : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : سر من أسراره ، فلما ركبت فى هذا القالب الذي هو قالب العبودية ـ طلبت الرجوع إلى أصلها. فجعل لها الحق جل جلاله بابا تدخل منه فترجع إلى أصلها ؛ وهو الذل والخضوع والانكسار والافتقار ، فمن دخل من هذا الباب ، واتصل بمن يعرّفه ربه ، رجعت روحه إلى ذلك الأصل ، وأدركت ذلك السر ، فمنها من تتسع لذلك السر وتطيقه ، ومنها من تضيق عن حمله وتبوح به ، فتقتلها الشريعة ، كالحلاج وأمثاله ، ومن طلب الرجوع إلى ذلك الأصل من غير بابه ، ورام إدراكه بالعز والتكبر ، طرد وأبعد ، وهو الذي صدر من النمرود وفرعون وغيرهما ممن ادعى الربوبية جهلا. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى من أدركته العناية ، وفى قصته برهان على إحياء الموتى الذي احتج به إبراهيم ـ عليهالسلام ـ فقال :
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))
قلت : (أو) : عاطفة ، و (كالذى) : معطوف على الموصول المجرور بإلى ، أي : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم فى ربه ، وإلى مثل الذي مر على قرية. وإنما أدخل حرف التشبيه ؛ لأن المنكر للإحياء كثير ، والجاهل بكيفيته أكثر ، بخلاف مدعى الربوبية فإنه قليل. وقيل : الكاف مزيدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج وإلى الذي مرّ ، (أنّى) : ظرف ليحيى ، بمعنى : متى ، أو حال بمعنى كيف ، و (يتسنه) بمعنى يتغير ، وأصله : يتسنن ، فأبدلت النون الثالثة حرف علة. قال فى الكافية :
وثالث الأمثال أبدلنه يا |
|
نحو (تظنّى خالد تظنّيا) |