فيلقى الله بالله دون شىء سواه ، والجاحدون لهذا هم الظالمون لأنفسهم ، حيث اعتمدوا على أعمالهم فلقوا الله بالصنم الأعظم. والحىّ القيوم الكبير المتعال غنى عن الانتفاع بالأعمال. وبالله التوفيق.
ومن عرف أنه الحي الذي لا يموت توكل عليه. قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ). والتعلق به : استمداد حياة الروح بالعلم والمحبة الكاملة. ومن عرف أنه الحي القيوم وثق به ، ونسى ذكر كل شىء بذكره ، ولم يشاهد غيره بمشاهدة قيوميته. والتعلق به استمداد معرفة قيوميته حتى يستريح من نكد التدبير ، والتخلق به بأن تكون قائما على ما كلّفت به من أهل وولد ونفس ومال ، وكلّ من تعلق بك من النساء والرجال.
ولمّا وصف الحىّ تعالى نفسه بأوصاف الكمال من الكبرياء والعظمة والجلال ، وكانت شواهد ذلك ظاهرة فى خلقه حتى تبيّن الحق من الباطل ، بيّن ذلك بقوله :
(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦))
قلت : (الرشد) : مصدر رشد ، بالكسر والضم ، رشدا ورشادا ، و (الغى) : مصدر غوى ، إذا ضلّ فى معتقده ، و (الطاغوت) : فعلوت من الطغيان ، وأصله : طغيوت ، فقلبت لام الكلمة لعينها فصار طيغوت ، ثم قلبت الياء ألفا. وهو كل ما عبد من دون الله راضيا بذلك ، و (العروة) : ما تستمسك به اليد عند خوف الزل كالحبل ونحوه ، ووثوقها : متانتها ، وانفصامها أن تنفك عن موضعها ، وأصل الفصم فى اللغة : أن ينفك الخلخال ونحوه ولا يبين ، فإذا بان فهو القصم ـ بالقاف ـ وهو هنا استعارة للدّين الصحيح.
يقول الحق جلّ جلاله فى شأن رجل من الأنصار ، تنصّر ولداه قبل البعثة فلما جاء الإسلام قدما إلى المدينة فدعاهما أبوهما إلى الإسلام فامتنعا ، فلزمهما أبو هما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فاختصموا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، فهو خبر بمعنى النهى ، أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول فى الدين. وهو خاص بأهل الكتاب.
قال البيضاوي : إذ الإكراه فى الحقيقة هو : إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا ، ولكن (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) أي تميز الإيمان من الكفر بالآيات الواضحة ، ودلت الدلائل على أن الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية ، والكفر غىّ يوصل إلى الشقاوة السرمدية. والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة والنجاة ، ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء. ه.