ثم هدّد بنى إسرائيل على عدم دخولهم فى الإسلام ، أو على عدم تمسكهم بشرائعه كلها ، فقال :
(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))
قلت : (كم) خبرية ، أو استفهامية ، محلها نصب بفعل محذوف يقدر مؤخرا للصدرية ، أي : كم آياتنا آتيناهم ، أو رفع بالابتداء ، والعائد محذوف ، أي : آتيناهموه.
يقول الحق جل جلاله لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو لكل سامع : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) سؤال تقريع ، وقل لهم : (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي : كثيرا ما آتيناهم من آية واضحة فى شأنك ، تدل على صدق رسالتك وعلو شأنك وفخامة أمرك ، اعتناء بأمرهم ، ونعمة على من أدرك زمانك منهم. ثم إنهم بدلوا نعمة الله كفرا ، وحجدوا فكتموا تلك النعمة وكفروها ، (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) من بعد مجيئها إياه ، (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمه وجحد رسله ، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء ، ومن كفران النعم ، وحرمان الرضا.
الإشارة : ما قيل لبنى إسرائيل ، يقال لمن تحقق بولاية ولى من أولياء الله ، ثم حجدها وكتمها ، وحرم نفسه بركة ذلك الولي ، فمات على مرضه ، فيقال له : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وعقوبته : أن يلقى الله بقلب سقيم ، فيبعث مع عوام أهل اليمين ، ويحرم درجة المقربين ، التي تلى درجة النبيين والمرسلين. عائذا بالله من الحرمان ، وشؤم عاقبة الخذلان.
ثم ذكر الحق جل جلاله سبب هذا الحرمان ، وهو حب الدنيا ، فقال :
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))
قلت : (زين) مبنى للمفعول ، والفاعل هو الله ، إذ لا فاعل سواه.
يقول الحق جل جلاله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل الكتاب وغيرهم ، (الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : حسّنت فى أعينهم ، وأشربت محبتها فى قلوبهم ، حتى تهالكوا عليها ، وأعرضوا عن غيرها ، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار ، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذّكار ، بل أعمتهم ، وأصمتهم ، وقصروا عليها همتهم ، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها ، كفقراء المسلمين وأهل الصفة ، فكانوا يستهزئون بهم ، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على الله ، فرفعهم الله