زللتم واعترضتم ، أو سخطتم ، من بعد ما جاءتكم الآيات البينات الدالة على وحدانية الحق فى ذاته وصفاته وأفعاله ، فاعلموا أن الله عزيز حكيم ، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم ، لكنه من حكمته يمهل ولا يهمل ، والله غالب على أمره ، ومن تاب تاب الله عليه.
ثم ذكر وعيد من خالف أمره ، فقال :
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))
قلت : (الظّلل) : جمع ظلّة ، وهى ما أظلّك من فوق ، و (الغمام) : السحاب الرقيق الأبيض.
يقول الحق جل جلاله : ما ينتظر هؤلاء الممتنعون من الدخول فى شرائع الإسلام ـ إلا أن تقوم الساعة ، ويأتيهم الله للفصل بين عباده (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ، بأن يتجلى لعباده على ما يليق بجلاله ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر. وتأتيهم (الْمَلائِكَةُ) تحيط بهم (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) بعذابهم ، (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كلها ، فهو المتصرف وحده. وقد ذكر المنذرى حديث هذا التجلي بطوله ، وذكر فيه النزول والفصل بين عباده ، والمرور على الصراط ، والناس فى أنوار إيمانهم. وذكره الفاسى فى الحاشية بتمامه. ومن كحل عين بصيرته بإثمد (١) التوحيد الخاص ، لم يستصعب عليه فهم هذا الحديث وأمثاله ؛ لسعة دائرة معرفته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : فى الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع الله ، بل هم يخاصمون الله فى مظاهر خلقه ، ويعترضون على الله فى قضائه وحكمه ، فقال لهم الحق جل جلاله : هل ينتظر هؤلاء المنكرون علىّ فى أفعالى ، المعترضون علىّ فى حكمى وإبرامى ـ إلا أن أتعرف لهم فى ظلل من الغمام ، وهو سحب الآثار ، فإذا أنكرونى أخذتهم الملائكة ، وقضى الأمر بهلاكهم ، وإلى الله ترجع الأمور كلها ، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه ، وليسلم الأمور كلها إلى الله ، إذ لا موجود سواه (٢) ، فما برز من العباد : كله من الله ، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع الله ، إلا ما أمرت به الشريعة ، فليكن فى ذلك كالعبد يؤدب ابن سيده ؛ يده تؤدب وقلبه يعظم ، والله تعالى أعلم وأرحم.
__________________
(١) الإثمد : حجر يتخذ منه الكحل. وقيل : هو نفس الكحل.
(٢) أي : لا موجود بحق.