قلت : كانت الأنصار إذا حجّوا أو اعتمروا ، يقولون : لا يحول بيننا وبين السماء سقف ، حتى يدخلوا بيوتهم ، فإذا رجعوا تسوّروا الجدران ، أو نقبوا فى ظهور بيوتهم ، فجاء رجل منهم فدخل من الباب ، فعيّر بذلك ، فأنزل الحق جل جلاله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) أي : الطاعة ، (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) فتتسوروها ، أو تنقبوا من أعلاها ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) المحارم وخالف الشهوات.
أو : ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه ، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم فى العاجل والآجل. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) ذلك ، (وَأْتُوا) بيوت العلم من أبوابها ، فتحسنون السؤال وتتأدبون فى المقال ، وتقدمون الأهم فالأهم ، والأنفع فالأنفع. (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تغيروا أحكامه ، ولا تعترضوا على أفعاله ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بتوفيقه وهدايته.
الإشارة : اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة : بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة ، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل. ومن أتاه من غيره طرد.
فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب : الباب الأول : التوبة ، فإذا دخل هذا الباب ، وحقّق التوبة بأركانها وشروطها ، استقبله باب الاستقامة ، وهى : متابعة الرسول فى أقواله وأفعاله وأحواله ، فإذا دخله ، وحقق الاستقامة ، استقبله باب التقوى بأقسامها. فإذا حقق التقوى ظاهرا وباطنا ، دخل بيت الشريعة المطهرة ، وتنزه فى محاسنه ومعانيه ، ثم يروم دخول بيت الطريقة ، وله ثلاثة أبواب :
الباب الأول : الإخلاص وهو : إفراد العمل لله من غير حرف ولا حظ ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهى التطهير من العيوب الباطنة ، وهى لا تنحصر ، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها ، وعلّمه أوديتها ، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية ، وهى : الاتصاف بأنواع الفضائل ؛ كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار ، وغير ذلك من أنواع الكمالات. فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة ، ثم يستقبله بيت الحقيقة.
فأول ما يقرع باب المراقبة ، وهى : حفظ القلب والسر من الخواطر الردية ، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة ، استشرف على باب المشاهدة ، وهى : محو الرسوم فى مشاهدة أنوار الحي القيوم ، أو تلطيف الأوانى عند ظهور المعاني ، فإذا دخل باب المشاهدة ، وسكن فيها ، استقبله باب المعرفة ، وهى محلّ الرسوخ والتمكين ، وهى الغاية والمنتهى ، فبيت الحقيقة هو مسجد الحضرة الربانية. وما بقي بعدها إلا الترقي فى المقامات ، وزيادة المعارف والكشوفات أبدا سرمدا ، منحنا الله من ذلك حظا وافرا بمنّه وكرمه.