بين التهليل
والتكبير والشكر ، امتثالا لقوله : (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) على ما أوليناكم من سابغ الإنعام ، وسهّلنا عليكم فى شأن
الصيام.
الإشارة
: كتب عليكم الصيام
عن الحظوظ والشهوات ، كما كتب على من سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات ، فى
أيام المجاهدة والرياضات ، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات ، لعلكم تتقون شهود
الكائنات ، ويكشف لكم عن أسرار الذات ، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضا بحب
الهوى ، أو على سفر فى طلب الدنيا ، فليبادر إلى تلافى ما ضاع فى أيام أخر ، وعلى
الأقوياء الذين يطيقون هذا الصيام ، إطعام الضعفاء من قوت اليقين ومعرفة رب
العالمين. فمن تطوع خيرا بإرشاد العباد إلى ما يقوّى يقينهم ، ويرفع هممهم فهو خير
له. وأن تدوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السّوى ، وعن مخالطة الحس بعد
التمكين ، فهو خير لكم وأسلم ، إن كنتم تعلمون ما فى مخالطة الحس من تفريق القلب
وتوهين الهمم ، إذ فى وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام ، وتترادف الأنوار
وسواطع العرفان. فمن شهد هذا فليدم على صيامه ، ومن لم يقدر عليه فليبك على نفسه
فى تضييع أيامه.
واعلم أن الصيام
على ثلاث درجات : صوم العوام ، وصوم الخواص ، وصوم خواص الخواص.
أما
صوم العوام : فهو الإمساك عن
شهوتى البطن والفرج ، وما يقوم مقامهما من الفجر إلى الغروب ، مع إرسال الجوارح فى
الزلّات ، وإهمال القلب فى الغفلات. وصاحب هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع ،
لقوله صلىاللهعليهوسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع
طعامه وشرابه». وأما صوم الخواص : فهو إمساك الجوارح كلّها عن الفضول ، وهو كل ما
يشغل العبد عن الوصول ، وحاصله : حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا
يعنى. وأما صوم خواص الخواص : فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب ، وحفظ السر عن
الوقوف مع الغير ، وحاصله : الإمساك عن شهود السّوى ، وعكوف القلب فى حضرة المولى.
وصاحب هذا صائم أبدا سرمدا. فأهل الحضرة على الدوام صائمون ، وفى صلاتهم دائمون ،
نفعنا الله بهم وحشرنا معهم. آمين.
ولمّا كان الصيام
يرقّق القلب فيحصل به القرب من الحق ، ذكره بإثر الصيام ، فقال :
(وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))