وصف المتصف بها بالصدق والتقى ، اللذين هما أساس الطريقة ومبنى أسرار التحقيق ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
الإشارة : ليس المطلوب من العبد أن يتوجّه إلى الحق بجهة مخصوصة ، كما إذا توجه إليه بالظاهر وأهمل الباطن ، أو توجه بالباطن وأهمل الظاهر ، ولكن المطلوب منه أن يزين باطنه بأنوار الإيمان واليقين ، ويزين ظاهره بسائر وظائف الدين ، ويزكى نفسه من الرذائل ؛ كالشح والبخل والغش والخيانة والكذب والخوف والجزع ، ويحليها بأنواع الفضائل ؛ كالسخاء والكرم والوفاء بالعهد والأمانة ، والصبر والشجاعة ، والعفة والقناعة ، وسائر أنواع الفضائل ، فإذا تخلى عن الرذائل وتحلى بأضدادها من الفضائل استحق الدخول مع الأبرار ، وكان من العارفين الكبار ، أولئك الذين ظفروا بصدق الطلب فنالوا الغاية من كل مطلب ، وأولئك هم المتقون حق التقاة ، فنالوا أعلى الدرجات ، منحنا الله من ذلك الحظ الوافر بمنّه وكرمه.
ولمّا مدح الله تعالى الصبر والجرأة فى الحرب ، أمر بالقصاص ؛ لئلا يتسع الناس فى إطلاق الجرأة ، حتى يتجرءوا على قتل المسلم ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))
قلت : (عفا) لازم يتعدى بالحرف : بعن إلى الجناية ، وباللام إلى الجاني ، فيقال : عفوت لفلان عن جنايته و (اتباع) خبر عن مضمر ، أي : فالأمر اتباع ، و (حياة) مبتدأ ، و (فى القصاص) خبره ، و (لكم) خبر ثان ، أو صلة له ، أو حال من الضمير المستكن فيه. وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى ، جعل الشيء مجيىء ضده ، وعرّف القصاص ونكّر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم ، أي : ولكم نوع من الحياة عظيم ، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل ، فيكون سبب حياة نفسين ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ، ويصير ذلك سببا لحياتهم. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : يا أيها المؤمنون (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي) شأن (الْقَتْلى) فى العمد ، فاستسلموا للقصاص ، فالحر يقتل (بِالْحُرِّ) ، ولا يقتل بالعبد. بل يغرم قيمته لسيده ، ودليله قوله ـ عليه الصلاة