جملتين ، وهى استدراكية ، و (عَلى حُبِّهِ) حال من المال ، و (الصَّابِرِينَ) نصب على المدح ، ولم يعطفه بالرفع لفضل الصبر وشرفه.
يقول الحق جل جلاله فى الرد على أهل الكتاب : (لَيْسَ الْبِرَّ) محصورا فى شأن القبلة ، (وَلكِنَّ الْبِرَّ) الذي ينبغى أن يعتنى بشأنه هو الإيمان بالله ، وما يجب له من الكمالات ، وباليوم الآخر وما بعده ، وبالملائكة وما يجب أن يعتقد فى شأنهم ، والكتاب المنزل من السماء كالقرآن وغيره ، و (النَّبِيِّينَ) وما يجب لهم وما يستحيل فى حقهم.
فالبر هو بر من اعتقد فى قلبه هذه الأشياء ، وأظهر على جوارحه ما يصدق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم ، فأعطى المال على محبته له ، أي : مع حبه ، فقد سئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أىّ الصّدقة أفضل؟ فقال : أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر». (وَآتَى الْمالَ) على حب الله ، لا جزاء ولا شكورا ، فأعطى ذلك المال ذوى قرابته المحاويج ، وقدّمهم لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «صدقتك على المساكين صدقة ، وعلى ذوى القربى اثنتان ؛ صدقة وصلة». وأعطى (الْيَتامى) لإهمالهم ، وأعطى (الْمَساكِينَ) الذين أسكنهم الفقر فى بيوتهم ، (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر الغريب ، كأن الطريق ولدته ، أو الضيف (وَالسَّائِلِينَ) ألجأتهم الحاجة إلى السؤال. وفى الحديث : «أعط السائل ولو على فرسه». وقال أيضا صلىاللهعليهوسلم : «هدية الله إلى المؤمن السائل على بابه». وأعطى فى فكّ (الرِّقابِ) من الرق أو الأسر.
(وَأَقامَ الصَّلاةَ) المفروضة ، (وَآتَى الزَّكاةَ) المعلومة. ومن أهل البر أيضا : (الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) فيما بينهم وبين الله ، وفيما بينهم وبين الناس (إِذا عاهَدُوا) الله أو عباده ، فإذا وعدوا أنجزوا ، وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدّوا ، وأخصّ من أهل البر (الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) كالفقر والذل وإذاية الخلق ، و (الضَّرَّاءِ) كالمرض والزّمانة (١) ، أو (البأساء) : الأهوال ، و (الضراء) فى الأنفس ، والصابرين (حِينَ الْبَأْسِ) أي : الحرب والجهاد ، (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) فى طلب الحق ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لكل ما يقطع عن الحق ، أو يشغل عنه. فقد اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها ؛ لاشتمالها على ما يزين البواطن من الاعتقادات وما يزين الظواهر من المعاملات ، وما يزكّى النفوس من الرذائل ويحليها بالمحاسن والكمالات. ولذلك
__________________
(١) الزمانة : مرض يدوم.